لا تهدد الحركات الدينية الأصولية النصرانية الملتحمة بالسياسة العالم الإسلامي وحده وإنما تستهدف العالم كله بالعدوان. ومع تأييد الحركات الدينية الأصولية شبه المطلق لإسرائيل، فإن الدولة العبرية تضج بالشكوى منها عندما تفصح عن اعتقاداتها الأصلية في ضرورة تنصير اليهود في آخر الزمان وهو العهد الذي بدأت بشائره تلوح كما يظنون. ويتشبث قادة هذه الحركات بتأويلات مستعجلة منحرفة وفاسدة لسفر الرؤيا، طالما أدت إلى تهديدات كثيرة للسلام في التاريخ الأوروبي والأمريكي، وأدت أخيراً إلى تهديدات كبرى للسلام على النطاق العالمي. وسفر الرؤيا هو آخر أسفار العهد الجديد، وهو كتاب يحظى بأعداد هائلة من القراء، لكثرة ما احتواه من قصص الإثارة، والرجم بالغيب، والتفصيلات العجيبة لأحداث مهولة، ذكر أنها ستقع في آخر الزمان. وقد انجذب الكثيرون لإيحاءاتها، وقاموا بتنزيلها لتطابق أحداثاً شهدوها في حياتهم أو تخيلوا حدوثها أو توقعوها. وبينما يؤمن الكثير من الغربيين المعاصرين منهم والغابرين، بأن سفر الرؤيا هو الإنجيل الوحيد الذي كتبه السيد المسيح، فإن هنالك مفكرين وزعماء غربيين عديدين أفصحوا عن عدم إيمانهم بورود نص كهذا عنه عليه السلام، لكثرة ما به من الشطح والألفاظ الشعرية القصصية الخيالية والتعبير عن الأمراض الفصامية. وقد وصفه الرئيس الأمريكي الأسبق الفيلسوف الكبير توماس جيفرسون بأنه يعبر عن تهاويم شخص منفصم مخبول. ووصفه أحد شراح الإنجيل بأنه سفر إما أن يعثر على مجنون أو يترك قارئه مجنوناً! ووصفه الكاتب الأمريكي المعاصر جوناثان كيرش بأنه نص مثير وخطير وقادر دوماً على استثارة مشاعر حادة في نفوس قارئيه وسامعيه، وهو في أصله رغبة قوية في الثأر، وموكب للفظائع، ونوع من الفروض الغريبة. والنص بعنفه وجموحه يغرق بعض القراء في النشوة الروحية التي يسمعون فيها الأصوات السماوية، ويشهدون مشاهد الإنجاز. وفي أيامنا هذه قد نميل إلى اعتبار ظواهر كهذه ضرباً من المرض العقلي. ويؤكد بعض المؤرخين الثقاة أن سفر الرؤيا هو من إنتاج شخص يهودي المولد والنشأة، كان قد فر من وجه يهوذا، بعد تدمير هيكل أورشليم القدس على يد الرومان، ولذا كان يعبر عن شعور شديد بالاشمئزاز تجاه كل من غزوا القدس ودمروها، وطفق يبشر بقدوم المسيح الموعود، الذي سينصر اليهود ضد مضطهديهم. وقد بقي سفر الرؤيا لذلك متأصلاً في التراث اليهودي والنصراني على السواء، ووصف بأنه وثيقة يهودية ذات لمسة نصرانية عابرة، وأنه مجرد شرح تفصيلي للرؤى الغامضة التي احتوتها أسفار العهد القديم. وقد جاءت أولى تأويلاته الشاطحة في القرن الثاني الميلادي، أي بعد ظهوره بنحو نصف قرن، وذلك على يد رجل يدعى مونتانوس ظهر بآسيا الوسطى، وأعلن أنه نبي، وبشر بنهاية الزمان، ودعا الناس إلى التوقف عن الإنجاب، لأن الزمن أمسى في نهايته، وأن مدينة أورشليم أخذت تتدلى من السماء من خلال السحب، وتهبط على الأرض. واستطاع هذا الشخص المتنبي أن يقنع واحداً من كبار قادة الفكر اللاهوتي وهو ترتليان بدعاواه، فجعل يساعده بالتمهيد للثورة على الرومان الذين كانوا يضطهدون النصارى قائلاً إنهم سيعذبون في نار أشد ضراوة من تلك التي أوقدوها في أيام مجدهم لأتباع المسيح. وذكر ترتليان في نبوته أن ذلك سيتم في مشهد ستراه أعين الناس عن قريب. وحتى بعد أن اتجهت الكنيسة إلى مصالحة الإمبراطورية الرومانية الوثنية، فقد ظل بعض المتأولين لسفر الرؤيا يخلعون على أباطرة الرومان، الصورة التي وردت في سفر الرؤيا عن الوحوش الشيطانية التي تجلس على عرش إبليس. وقد أدى ذلك التصوير المتأول إلى وقوع صدامات عنيفة بين المتدينين المتطرفين المتهوسين وبين العرش الروماني، راح ضحيتها الكثير من أتباع الطرفين، الأمر الذي دفع بالكنيسة إلى إصدار تفسيرات دينية تهدم أمثال تلك التأويلات والتوقعات، من بينها رسالة بولس الثانية إلى أهل تسالونيكي التي تُعدُّ تراجعاً واضحاً عن الوعد بقرب نهاية دمار العالم، لأن علامات النهاية لم تأت بعد وهي ردة النصارى عن دينهم وعلو أبناء الهلاك. ثم أصدرت السلطات الكنسية توصية ملزمة للنصارى تقول بأن النصراني الحق، يجب ألا يقترف خطيئة الاطلاع على سفر الرؤيا اطلاعاً حرفياً حسياً، لأنه يتوجب أن ينظر إليه على أنه نص رمزي مجازي ليس إلا، وأنه لا يدل بأي نحو من الأنحاء على وصف للطريقة أو الوقت الذي يشهد دمار الأرض، وجرت عدة محاولات كنسية جادة استهدفت شطب سفر الرؤيا من عداد الأناجيل المعتمدة في العقيدة النصرانية. كما اجتهد المنظر والمجدد الديني النصراني الشهير أوغسطين في تأليف كتابات متتالية، حث فيها النصارى على تقييد مطالعتهم لسفر الرؤيا بالموجهات التي ذكرتها الكنيسة من قبل، مؤكداً أن هذا النص لا يعدو أن يكون سلسلة من المجازات التي لا يمكن أن تؤخذ حرفياً، وإلا جاءت بالكارثة وهددت حالة الطمأنينة والسلام العام. ثم حددت الكنيسة طائفة من العقوبات الرادعة، تتولى إصدارها محاكم التفتيش الرهيبة، التي أخذت توقع أحكام الحرق والصلب على المبتدعين المهرطقين المفرطين في التأويل سفر الرؤيا. وقد أسهم ذلك العنف القضائي في كبت ظاهرة تأويل مجازات سفر الرؤيا وتنزيلها على الأشخاص والأحداث، إلى أن تمادى الزمن، وظهرت في بعض فترات العصور الوسطى بعض التأويلات المنحرفة لسفر الرؤيا، تقول بأن نبي الإسلام محمد «ص» هو المسيح الدجال، الذي يجب على نصارى أوروبا أن يتحدوا ليقاوموا دينه ويحاربوا أتباعه، ويتصدوا لمحاولاتهم لنشر دينهم وسط النصارى، في الإمبراطورية البيزنطية، وما جاورها، وقد تساهلت الكنيسة مع هذه التأويلات، لأنها كانت تصب في صالحها في المنتهى.