للمرة الثانية شاهدت عصر الخميس الماضي إعادة لحلقة من هذا البرنامج الناجح الذي تقدمه فضائية النيل الأزرق ،والتي تناولت قصة تهريب المرحوم عبد الخالق محجوب من معتقله في مصنع الذخيرة قبل انقلاب المرحوم هاشم العطا في يوليو 71م. ضيف الحلقة وبطل القصة الأخ العريف عثمان محمد عبد القادر والذي قام بتهريب عبد الخالق،عرفته والتقيته في سجن كوبر في يوليو 75 ، وسبق لي أن كتبت في هذا العمود عن حصاد ذلك اللقاء إذ التقيت خمسة من المعتقلين السياسيين في قسم المديرية بكوبر ، ثلاثة منهم من الكوادر العسكرية لحركة هاشم العطا وهم الأخ عثمان والأخ الملازم عبد العظيم زاهر سرور والملازم صلاح بشير،ومعهم اثنان من كوادر الحركة الإسلامية وهما المرحوم «ود المكي»رئيس اتحاد طلاب جامعة الخرطوم يومها والأخ فتحي خليل سكرتير الاتحاد . ما أود أن أسجله في هذه السطور هو أن الرواية المتعلقة بتهريب عبد الخالق وما تبعها من أحداث كما رواها الأخ عثمان في البرنامج التلفزيوني تكاد تكون طبق الأصل لما رواه لي في ليل السجن الطويل قبل أكثر من خمسة وثلاثين عاماً،لم يعدل فيها حرفاً أو يختلق إضافةً أو ينسب لنفسه بطولة كما يفعل البعض حين تتراكم السنوات على الحدث.وهذه محمدة وإنصاف واجب لحديث الأخ عثمان الذي اتسم بالبساطة والتواضع والحس الانسانى الذي لا يترفع عن إبراز جوانب القوة والضعف في النفس البشرية. ومن الإشارات الذكية التي أوردها الأخ عثمان حول تداعيات عودة نميري بعد ثلاثة أيام من انقلاب هاشم العطا،تلك الإشارة التي تنم عن غياب«الضبط والربط» كما يطلق عليه العسكريون في أيام «العودة»الأولى وما تلاها من محاكمات الشجرة،فقد وضح من حديث عثمان أن الجنود وضباط الصف كانوا القوة العسكرية الفاعلة في تلك الأيام العصيبة،ربما لدورهم العسكري المؤثر في إعادة النميري للحكم ، وتنامي دورهم داخل المؤسسة العسكرية في تلك الفترة للدرجة التي دفعت المرحوم حماد الاحيمر ورفاقه من الجنود وضباط الصف لتجربة حظهم مرة أخرى في انقلاب المرحوم حسن حسين،فدفعوا أرواحهم ثمناً لهذا التطلع الذي أفرزته يوليو 71م. كذلك توقفت كثيراً عند الحديث المنصف الذي ساقه الأخ عثمان في حق الرجل الكبير المرحوم اللواء الباقر «نائب رئيس الجمهورية الأسبق» حين تعاطف مع عثمان وأوصى بعدم تحويله لمحاكم الشجرة والتي كانت ساحة للقتل في غيبة القانون والعدل. مثل هذا البرنامج الناجح هو توجه حميد لتقليب أوراق حياتنا السياسية المعاصرة،وهو يمثل زيارة جديدة للتاريخ «كما يقول هيكل»،إذ من المهم إدراك الأحياء من الناس الذين تقاطعت حياتهم مع المحطات السياسية الهامة في تاريخنا وتوثيق رؤيتهم...فما أكثر التغول على التاريخ حين يرحل الشهود.