رعى الله أياماً كانت فيها المكتبات كمحال بيع الذهب والمجوهرات بفاتيرناتها الزجاجية الأنيقة وأضوائها الباهرة ونظافتها المعهودة، وإصدارات الكتب تتربع عليها كالدرر النفيسة. هكذا كان حال «سودان بوكشوب» في سوق الخرطوم «الأفرنجي» قبل عدة عقود من السنين. أذكر أنني في مطلع السبعينيات وإبان العطل السنوية في مرحلة دراستي الثانوية، عملت بائعاً في مكتبة سودان بوكشوب بتشجيع من والدي- وهو أمر أحمده له كثيراً- فقد أشبعت هذه التجربة على قصرها نهمي الفاتك للقراءة. صاحب سودان بوكشوب هو الراحل/ يوسف تادرس وكان مديرها العام العم الراحل/ إسكندر فهمي الذي انتقل من سودان بوكشوب فيما بعد ليؤسس مكتبة مروي الشهيرة. ،كنت اتقاضى راتباً شهرياً يبلغ العشرين جنيهاً.. ويا له من مبلغ في ذاك الزمن بين يديّ صبي دون العشرين، إذ كان يومها موظفو الحكومة غير الجامعيين يتقاضون أقل من هذا الراتب. كنا نعمل على فترتين من التاسعة صباحاً حتى الواحدة والنصف ظهراً، ومن الخامسة عصراً حتى الثامنة والنصف مساءً. وأذكر أنني ومن أول راتب اشتريت عجلة فيلبس حمراء أنيقة كانت في نظري كما سيارة الفيراري الحمراء الأنيقة التي يرنو إليها مترفو العالم فى هذا الزمن، وزاد من سعادتي أنني حصلت عليها بكدي وعرق جبيني كما يقولون. ولم تقتصر سعادتي على الراتب فحسب، فأنا مدين لهذه الفترة الطيبة بعشرات بل مئات الكتب التي التهمتها اقتناصاً من الزمن الذي كانت فيه المكتبة تخلو من الرواد والزبائن. كتب كثيرة، سهلة وعسيرة.. بعضها فهمته والبعض الآخر لم أفهم منه حرفاً، وعلى الرغم من هذا كنت أقرأه من الغلاف للغلاف، ومن هذه الشاكلة كتب الأديب جيمس جويس! لم تنحصر المتعة عند هذا الحد من المال الوفير والتحصيل المعرفي، فقد كانت سودان بوكشوب تقوم بتوفير الصحف الإنجليزية اليومية وهي طازجة تأتي بصورة شبه يومية على متن الخطوط البريطانية (B.O.A.C)، لذلك كان الدبلوماسيون الغربيون يتوافدون على المكتبة في الأمسيات لاقتناء هذه الصحف فى زمن لم يعرف القنوات الفضائية أو ال«نت»، وبالتالي كنت «أجابد» معهم الإنجليزية وأنا في سنوات الانتقال ما بين اليفاعة والصبا، مما أكسبني فيما بعد بعض الاتقان لهذه اللغة. وفوق هذا كله كان مجلس عمنا إسكندر فهمي في الأمسيات أشبه بالمنتدى الأدبي إذ يتحلق فيه كبار الساسة والدبلوماسيين والأدباء.. قامات باسقة أمثال جمال محمد أحمد وهاشم ضيف الله وبشير محمد سعيد وعبد الله الطيب وبروفيسور عمر محمد عثمان وأحمد محمد يس وخضر حمد ومنير صالح وإسماعيل العتباني وحسن نجيلة وسيد أحمد نقد الله وسر الختم الخليفة ومولانا هنري رياض ومولانا دفع الله الرضي وغيرهم، ولا أجدني مبالغاً إذا قلت إن استراقي للسمع من ذاك المجلس اليومي الوضئ كان كفيلاً بمنحي درجة علمية رفيعة، وذلك تأسياً على طرفة عمنا السر- أحد ظرفاء دار الرياضة أم درمان- والذي كان يعمل «جناينياً» بجامعة الخرطوم لمدة أربعين سنة، حينما داعبه ظريف آخر من المشجعين بقوله: «أربعين سنة جنايني في جامعة الخرطوم.. حرَّم لو بتتاوق بالشبابيك ساي كان بقيت بروفيسور»..!!