«إن ثروة الأمة الحقيقية تعتمد على مواطنيها، وعلى الإدارة، ونظام الحكم الراشد، أكثر من اعتمادها على الموارد الطبيعية.. المشكلة تكمن في أين تجد الإدارة الجيدة». البروفسير وليام إدواردز د يمنغ «1900- 1993م» اقتصادي مرموق وأكاديمي خبير في الإحصاء وإدارة الأعمال، اسمه مرادف لدراسة الجودة. يشبه نظام الإدارة في جامعة الخرطوم إلى حد بعيد النموذج البريطاني: وحدات أكاديمية «كليات ومعاهد ومدارس وأقسام» يديرها عمداء ومديرون ورؤساء أقسام بالتعاون مع مسجلين، بالإضافة لوحدات خدمية مساندة، ثم إدارات على مستوى الجامعة بأكملها للشؤون الأكاديمية والإدارية والمالية وشؤون الطلاب والدراسات العليا، مسؤولوها المباشرون على التوالي أمين الشؤون العلمية ووكيل الجامعة وعميد الطلاب وعميد الدراسات العليا. ويتسنم قمة الهرم مدير الجامعة ونائبه ووكيل الجامعة «الذي يسمى مسجل الجامعة في النموذج البريطاني». يتمتع مدير جامعة الخرطوم بسلطات إدارية واسعة- لكن الجامعات العريقة مثل جامعة الخرطوم تحكمها- بالإضافة للوائح والقوانين- التقاليد الجامعية المتراكمة مع مرور الزمن. لذلك يفضل مدير الجامعة -حيثما كان ذلك مستحبا- الاهتداء برؤى مجالس ولجان كثيرة يتبنى في معظم الاحوال توصياتها. لقد كانت هذه المؤسسية دائما سمة لافتة للنظر لعمل الجامعة في أحلك الظروف التى مرت بها، وستظل، إن هي حرصت عليها، صمام الأمان لها في مستقبلها. فوق إدارة الجامعة مجلسها المكون من أعضاء من داخل الجامعة وخارجها ورئيسه من خارج الجامعة يعينه راعي الجامعة، ومقرره وكيل الجامعة. ولمجلس الجامعة لجنة فرعية هي اللجنة التنفيذية والمالية التي يرأس اجتماعاتها رئيس المجلس. إن قانون الجامعة يحدد سلطات واختصاصات مجلس الجامعة واللجنة التنفيذية والمالية. وفي رأيي أن نجاح أية إدارة لجامعة الخرطوم يعتمد إلى حد بعيد على حرصها أن يلعب مجلس الجامعة واللجنة التنفيذية والمالية دورهما في دفع العمل بالجامعة، ليس فقط دورا غير منقوص وإنما هو أكبر. بجانب مجلس الجامعة هناك مجلس آخر يعتبر فعليا السلطة النهائية في كافة المسائل الأكاديمية، ويرأسه مدير الجامعة ومقرره أمين الشؤون العلمية. هذا المجلس هو مجلس أساتذة جامعة الخرطوم. يعتبر مجلس أساتذة جامعة الخرطوم في تكوينه وحجمه فريدا، ليس في السودان فحسب، بلا ربما في المنطقة برمتها. أعضاء هذا المجلس أعضاء هيئة التدريس في درجة الأستاذية وعمداء الكليات ونوابهم ومديرو المعاهد والمراكز والمدارس والوحدات ورؤساء الأقسام وكبار إداريي الجامعة وممثلون للطلاب ونقابة العاملين ووكيل الجامعة وأمين الشؤون العلمية ونائب مديرالجامعة- وبالطبع أيضا مديرها. إن محافظة الجامعة على أدائها الأكاديمي- الذي مازال متميزا- وتطويره تعتمد إلى حد بعيد على بقاء مجلس الأساتذة محافظا على تكوينه ومحتفظا بمهامه. ففي تكوينه يضم المجلس أكثر من جيل من الأساتذة، فيوفر بذلك ملتقى تنساب فيه الخبرات وأنماط الحداثة من جيل لآخر فتترسخ التقاليد الجامعية العريقة التي تصلح لكل زمان، وتتراجع، أمام الأفكار الحديثة، تقاليد أخرى تخطاها الزمن. أما مهامه فهي باختصار شديد رقابة الأداء الأكاديمي وتأييد وابتكار وسائل ترقيته. وحتى يتمكن مجلس الأساتذة من إنفاذ هذه المهام يتعين على وحدات الجامعة الأكاديمية المختلفة القيام بواجبها في إطلاع المجلس على كافة نشاطاتها الأكاديمية. نتائج الامتحانات إحدى هذه النشاطات، لكن هناك أخرى كثيرة ينبغى أن يحيط بها المجلس كما كان يحدث بدرجات متفاوتة في الماضي. في ما يلي أذكر بشىء من التفصيل ما أراه ضروريا في هذا المجال. كما ذكرت في حلقة سابقة، فإن لمكتبة الجامعة، أي جامعة، مكانة محورية في الصرح الجامعي. لذلك من الضروري أن يستأنف القائمون على أمرها رفع تقارير سنوية مفصلة عنها لمجلس الأساتذة عبر لجنة المكتبة التي يرأسها نائب مدير الجامعة. وما يقال عن المكتبة يقال أيضا عن كافة وحدات الجامعة الأكاديمية. إنني اقترح أن ترفع جميع كليات ومعاهد ومدارس ومراكز الجامعة، منفردة، تقارير سنوية تبين نشاط أعضاء هيئة التدريس في أقسامها المختلفة، فتذكر أسماء من قاموا بنشر أبحاث علمية في ذلك العام والدوريات التي نشرت فيها، والزيارات العلمية التي قاموا بها لدور علم أخرى سواء ممتحنين خارجيين أو لإلقاء محاضرات متخصصة أو عامة والمؤتمرات التي حضروها في داخل وخارج البلاد، وطلاب الدراسات العليا الذين يشرفون عليهم. ولا بد أن تحتوي هذه التقارير أيضا على متوسط العبء التدريسي الذي يتحمله كل قسم وعدد أعضاء هيئة التدريس فيه ومجمل عدد الطلاب الذين يتولى تدريسهم أو يشرف عليهم أساتذته في الدراسات العليا. إن من واجبات مجلس الأساتذة أن يناقش مثل هذه التقارير ويجيزها- ويكون بذلك مطلعا على كافة أوجه النشاط الأكاديمي في الجامعة. إن أياً من هذه التقارير يعرف في الجامعات البريطانية باسم «تقرير لمجلس الأساتذة» REPORT TO SENATE أما في الجامعات الأمريكية فالتقارير الأكاديمية التي ترفع للجامعة يرفعها كل أستاذ منفرداً وبناءً عليها تقرر الجامعة في تجديد عقد عمله معها. إن التقارير المرفوعة لمجلس الأساتذة توفر للجامعة بشكل دائم معلومات تصبح هى في أشد الحاجة لها عند إعدادها تقريرها السنوي لمجلس الجامعة أو خطاب مدير الجامعة في احتفالات التخرج، أو عندما تطلب منها جهات خارجية مثل المجلس القومي للتعليم العالي والبحث العلمي تقرير الأداء- فلا تجد مناصا حينئذٍ، في غياب المعلومات المطلوبة، من أن تستنفر أجهزتها لملاحقة الكليات والوحدات الأخرى، تستحثها لإرسال البيانات المعنية. كما يمكن للجامعة أيضا أن تستفيد من هذه التقارير في معرفة نشاط أعضاء هيئة التدريس فتبنى قراراتها بشأن استبقاء بعضهم والاستغناء عن آخرين على أسس موضوعية. لقد ظلت جامعة الخرطوم متمسكة حتى الآن بأمرين، لأن إداراتها المتعاقبة تعلم أن التخلى عن أي منهما سيقضي على آمالها في الريادة العالمية والتقدم الذي لا يحده سقف. الأمر الأول هو نظام تعيين مساعدي التدريس وأعضاء هيئة التدريس فيها، والثاني نظام ترقياتهم، وتنظر في الأمرين لجان استشارية لمدير الجامعة تابعة لمجلس الأساتذة. الجهة التي توصي بتعيين مساعدي التدريس لجنة يرأسها نائب مدير الجامعة، واللجنة التي توصي بتعيين أعضاء هيئة التدريس يرأسها مدير الجامعة، واللجنتان تعملان وفق شروط وقوانين أكاديمية صارمة أجازها مجلس الأساتذة. أتمنى ألا يأتي اليوم الذي تتخلي فيه الجامعة عن هذه الشروط والقوانين. أما في ما يتعلق بترقية أعضاء هيئة التدريس فإن اللجنة التي توصي للمدير في هذا الأمر هى لجنة ترقيات أعضاء هيئة التدريس. وتعتمد المرحلة الأخيرة للترقية «في ما عدا الترقية لأستاذ مشارك بالخدمة الطويلة المتميزة» على تقارير محكمين يقومون الانتاج العلمي للمتقدم ويراعى في اختيارهم تميزهم في تخصص ومجال أبحاث المتقدم. لقد درجت جامعة الخرطوم على اختيار محكمين عالميين، وتطلب في حالة الترقية لمرتبة أستاذ إجماع المحكمين «وعددهم ثلاثة» على التوصية بالترقية. ولدى ملحوظات واقتراحات متعلقة بالترقيات في الجامعة أقدمها للنظر فيها. 1/ إن من الضروري أن يطلب من كل عضو هيئة تدريس أن يقدم طلبا للترقية بعد فترة مناسبة موحدة تراعي الظروف التي تعوق البحث العلمي في البلاد وصعوبته النسبية في بعض المجالات. إنني أرى أيضا أن تحتفظ الجامعة بحقها في الترقية بالخدمة المتميزة، على أن يقدم الطلب قبل انتهاء الفترة الواجبة لتقديمه، وعلى أن تكون الخدمة حقا متميزة. 2/ بعض المتقدمين للترقية يقدمون طلباتهم مكتوبة باللغة العربية وحسب، مع أن أغلب مؤلفي مصادر أبحاث المتقدم قد يكونون ناطقين بغير العربية. إن هذا يدفع إدارة الترقيات- خاصة بالنسبة للطلبات من الكليات العلمية- لدعوتهم إرسال نسخ من الطلب، بما في ذلك السيرة الذاتية- باللغة الإنجليزية حتى لا تجد الجامعة نفسها مقيدة باختيار مقومين من الدول العربية فقط. ولا أشك أن كل متقدم للترقية في المجالات العلمية يود أن يطلع على طلب ترقيته علماء مرموقون من دول متقدمة، ونحن نعلم أن معظمهم الآن، مع الأسف، من غير الناطقين بالعربية. وأقترح أن يكتب الطلب في المجالات العلمية باللغة الإنجليزية حتى لا تجد الجامعة نفسها مقيدة بإرسال الطلبات لمحكمين عرب فقط. 3/ اقترح أن يشرف مدير الجامعة على اختيار المحكمين للترقية، وهو ممكن مع وجود مصادر عالمية لتخصصات وعناوين الباحثين في شتى فروع المعرفة، مثال ذلك مجلدات «البحث العلمي في الجامعات البريطانية» SCIENTIFIC RESEARCH IN BRITISH UNIVERSITIES ، وهى مجلدات سنوية وليست غالية الثمن ويمكن للمجلس البريطاني بالخرطوم أن يعين مكتب المدير على اقتنائها. وهناك أيضا مجلدات مشابهة للناشطين في البحث العلمي في دول أخرى كثيرة مثل الولاياتالمتحدةالأمريكية واليابان والصين وكوريا الجنوبية، وأثق في أن سفارات هذه الدول ستسعد بتوفيرها. وفي هذا المضمار ستجد إدارة الترقيات في شبكة المعلومات الدولية مصدرا إضافيا لبناء قاعدة بيانات عن المحكمين في كافة مجالات المعرفة بتخصصاتها الدقيقة. ومن الممكن أن تظل الكليات تبعث باقتراحات أسماء المحكمين، إلا أن القاعدة ينبغي أن تكون أن الكلمة الأخيرة في هذا الأمر لرئيس لجنة الترقيات الذي سيراعي في اختيار المحكمين اختصاصهم بالمجال وتميزهم وتنوع توزيعهم الجغرافي. 4/ في حين أن عدد الأوراق العلمية ومكانة الدوريات التي تنشر فيها مؤشران على جودة البحث وأصالته، إلا أن عدد العلماء الذين يستشهدون في أبحاثهم بورقة علمية معينة مؤشر أدق على تميز الورقة وفائدتها. وبما أن هناك الآن دوريات ومواقع في شبكة المعلومات الدولية تحصي مرات الاستشهاد CITATION بالأوراق المنشورة في دوريات معترف بها، فستحسن الجامعة صنعا إن اعتبرت عدد مرات الاستشهاد بالورقة العلمية معيارا أهم من عدد أوراق المتقدم للترقية. 5/ إن من رأيي أن الكتب العلمية العربية المؤلفة والمعربة التي أجاز طباعتها محكمون مرمقون لا تجد في نظام ترقيات الجامعة الحالي تقديرا كافيا. إن هذا غير منصف لكثير من طالبي الترقية، خاصة أساتذة كليات العلوم الإنسانية. إن تصحيح هذا الوضع ضروري كما أن ضروري أيضا، كما ذكرت في حلقة سابقة من مقالاتي وأكرر هنا للتأكيد، أن يطلب من كل متقدم للترقية لدرجة الأستاذية أن يكون قد الف كتابا بالعربية وعرب آخر في مجاله، وأن يكون الكتابان قد نشرا بناءً على تحكيم علمي ولغوي دولي مرموق. أما في ما يخص الذين ترقوا للأستاذية في الماضي دون استيفاء هذا الشرط، فيمكن أن ترهن الجامعة استمرارهم فيها باستيفائهم هذا الشرط خلال فترة محددة. 6/ إن عظم مهام إدارة الترقيات، خاصة في ما يتعلق بالعمل الكبير في «3» و «4» أعلاه، يتطلب إنشاء جهاز إداري- أكاديمي شبه متفرغ للترقيات في مكتب المدير، وأن تحاط ترتيبات عمله بسرية تامة لا تسمح بالاستفسار عن مصير أي طلب ترقية إلا بخطاب رسمي لمدير الجامعة. إن نظاما كهذا سيساعد أيضا في معالجة أمر الترقية دون التأخير الذي ظل حتى الآن سمة ملازمة لكثير من الترقيات في الجامعة. 7/ اقتراحي الأخير في أمر الترقيات ليس جديدا، فهو تقليد معمول به في جامعات عالمية كثيرة، وقد سبق أن اعتمدته الجامعة، ويبدو أن إدارة الجامعة الحالية جادة في تنفيذه بشكل أو بآخر. الذي أراه أن يطلب من الذي تجاز ترقيته للأستاذية أن يلقي محاضرة عامة باللغة العربية في قاعة الشارقة قبل إنفاذ ترقيته بواسطة الجامعة، وأن تكون في مستوى ييسر للمستنيرين من غير أهل التخصص- من داخل الجامعة وخارجها- فهم خطوطها العريضة على الأقل. هذه المحاضرة، والتي ينبغي أن تطبعها الجامعة في كتيب صغير أنيق إثراءً لمكتبة المجتمع العلمية، تسمى في الجامعات العريقة «ومنها جامعة الخرطوم»، محاضرة تدشينية INAUGURAL LECTURE.