توفي عم جابر المعروف بمحمد عبد الله جابر، الخبير بوزارة الشؤون الإنسانية، وبرحيله خبا مشعل من مشاعل العمل الطوعي والانساني السوداني، خبرته هي عمر ادارة العمل الانساني الناضج، اذ ان العمل الانساني لا تعلو اهميته لدى الناس الا عندما تصيبهم كارثة، فيبحثون عنه كما يبحثون عن الصندوق الأسود اضطرار لمعرفة ما حدث، كما الحال عندما تصاب طائرة بمكروه لا سمح الله. اكرمته منظمة كير العالمية حينما جعلته يدير برنامجها بحجم جنوب السودان، حيث ضخامة البرنامج، لكن عفته عصمته من ان يصبح احد امراء الفقر، فلم يجد الا سقيفة عشوائية في الحاج يوسف بمدينة بحري تجمعه وأسرته. بدا حياته معلما في اواسط سبعينيات هذا القرن، وقت أن كان لمهنة التدريس ذاك البريق والطعم الادبي والمادي، فتخرج على يديه أكابر الساسة الجنوبيين والشماليين، أين هم منه الآن؟ عم جابر من ملكال، سحر الجنوب، هذه المدينة التي تفرد كلتا يديها دوما متطلعة نحو الوحدة والسلام الذي كد وجد فيه احمد الرضي جابر قريبه الذي استشهد، قبل ان يدركه، إثر تحطم المروحية التي كانت تقله وموسى علي سليمان ابن الكواليب البار الملقب ب «أبونا آدم» زملينا وزميل الأخ حيدر المكاشفي والقاص الاديب يحيي فضل الله، في رحلة بحثهم عن السلام يقودهم أبو قصيصة. إذا لقيت عم جابر لن يشعرك أنه جنوبي، فهو يمثل السودان، كله، بقسماته وتقاطعيه فهو رمز لوحدته التي كان يتوق لها. وهذا يؤكد أن العمل الانساني الطوعي لا يحمل بطاقة ولا جنسية مما يؤهله للعب دور فاعل وأكبر للوحدة اذا احسنا توظيفه والتوظيف فيه. عم جابر هذا الانتماء الوطني اهله لقيادة التنسيق في برنامج عمليات شريان الحياة، حيث انتماؤه الجنوبي وثقافته الشمالية قد ساهمتا في قبوله لتقديم المساعدة الانسانية عبر وخلف النار بين مناطق سيطرة الحركة الشعبية والحكومة السودانية. وشهد سكان ولاية الخرطوم خاصة والمناطق التي تحتضن شريط النيل على همة وعفة عم جابر، وهو يترأس لجنة تخصيص وتوزيع المعونات للمنكوبي الفيضانات الانسانية التي ضاق بها مطار الخرطوم، حيث جاءت من كل حدب وصوب في عام 1981م. وعم جابر لا يقل قامة ولا قيمة عن جين هنري دونان مؤسس اللجنة الدولية للصليب الاحمر الذي يؤرخ العمل الانساني والطوعي به، وكرمته اوربا بجائزة نوبل للسلام في عام 1901م لتأسيسه للجنة الدولية للصليب الاحمر، المؤسسة التي يتذكرها كل من ذاق مرارة الأسر. وجعلت تاريخ وفاته ميلاد اللجنة الدولية للصليب الاحمر التي فك أسيرها الفرنسي لورانس أخيراً من ايدي خاطفيه بدارفور، وهو عمل انساني رائع من الحكومة أكسب العلاقة السودانية الفرنسية نكهة جديدة، تؤكد تعاظم الدور الدبلوماسي للعمل الإنساني. وأُطلق اسمه على شوارع ومدارس كثيرة في جنيف بسويسرا تخليدا لذكراه، بل صار منزله متحفا يضم كل ممتلكاته المتواضعة، وصمم فليم باسمه يعكس اطوار حياته المختلفة في 1948م. واصدرت اللجنة الدولية للصليب الاحمر جائزة باسمه لمن يسهم في تطوير العمل الانساني في كل عامين مرة. لكنه رغم ذلك مات بقرية هيتن بسوسيرا في 30 اكتوبر1910م فقيرا كما مات عم جابر. وتخليدا لذكراه ايضا قام مركز الحوار الانساني الذي تم تسجيله بصفته منظمة تطوعية بسويسرا مهمته تثقيف واجراء حوارات حول مبادئ العمل الانساني شمل افراد المعارضات المسلحة في كل العالم ما استطاع الى ذلك سبيلا. واضحى هذا المركز محل ثقة كثير من اطراف الصراعات في العالم، فقد اقام ورش عمل تثقيفية في كل من افريقيا الوسطى، حيث ادار عدة حوارات بين اطراف متحاربة هنالك حول السلطة، وكذلك اثناء مخاض ميلاد دولة تيمور الشرقية. وفي كينيا حيث استطاع انجاح المفاوضات عبر الحوارات ايضا التي ادت الى انهاء العنف الدموي الذي راح ضحيته مئات من المواطنين الكنيين عقب اعلان نتيجة الانتخابات التي جرت هنالك، ومكن من الوصول الى اتفاق شائك لتقسيم السلطة في فبراير 2008م. وكذا الحال في ومينمار والفلبين. ونقل ذات المركز حواراته الى داخل الشأن السوداني، حيث اقام ورشة عمل بنيروبي في الفاتح من اكتوبر2009 وسط قادة حركة العدل والمساواة المعارضة. وقدمت فيه اوراق مفاهمية عن طرق آمنة لتوصيل المساعدات الانسانية، خطف المركبات وعمال الاغاثة، حماية المدنيين خاصة النساء والاطفال، حقوق النازحين، آليات مشتركة، هذا وقد شارك فيها لفيف من خبراء العمل الانساني . وتم الاتفاق على أن يسهم المركز عبر الحوار وآليات بين حركة العدل والمساواة والمنظمات العالمية، على أن يلتقي قادة حركة العدل والمساوة والحكومة السودانية في هذا الإطار الذي يتطلب كثيراً من الثقة والشفافية العالية. واشترطت حركة تحرير السودان جناح عبد الواحد لورشتها الحوارية أن تقام بجنيف، فلبى طلبها في عام 2009م، حيث اكتشفت كم أنها في حاجة لمثل هذه الحوارات التي تعلم فيها عضويتها المبادئ الانسانية التي تتمثل في احترام القوانين الدولية التي تضبط وتنظم العمل الانساني والطوعي حتى ولم يبلغوا مقام الدولة. واقام المركز بمدينة الفاشر في الثامن من فبراير 2010م ورشة حوارية مع الاطراف الحكومية التي تدير وتنظم وتؤثر في تفاصيل ومجريات العمل الانساني هنالك، وابرز المسهلين لهذه الورش الحوارية هو راميش السيرلينكي الذي كان يدير مكتب الأممالمتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية المعروف ب OCHA حيث لعب دورا كبيرا في سد الفجوة بين توقيع اتفاقية السلام وتكوين حكومة الوحدة الوطنية عبر رعايته للجنة الفنية. وشهد مسرح الصراع المسلح بدارفور كثيراً من الاعتداءات على قوافل الاغاثة، إضافة الى عمليات نهب عربات المنظمات والممتلكات الشخصية للعاملين، حتى ظن الناس أن المنظمات انما تهدي هذه الامكانيات لدعم الحركات المسلحة عمدا ّّ!!!! ويعود ذلك كله الى القواعد المرنة التي تمليها هذه المنظمات على العاملين فيها، من أهمها عدم المقاومة وتعرض النفس للخطر، حيث حياة السائق عندهم اهم من المركبة..!! وهذا السلوك يشعر المراقب كانما تجرى عملية تسليم وتسلم، رغم ان الامر قد لا يخلو من هذا وذاك. ومن أجل ذلك يجري هذا المركز حوارات مع قادة الحركات المسلحة من أجل إبراز هذه المخالفات، وكشف سترها وتأثيرها على سمعة هذه الحركاتّ!! «نعم سمعة هذه الحركات» في المحيط الدولي الذي تحتاجه هذه الحركات باعتبارها قنوات دبلوماسية لتسويق قضيتها، وعلاقات عامة تدعم بها إمكانياتها لإبراز حيثيات القضية. والمركز يقوده ماك مانارا، وهو رجل ضليع في العمل الإنساني الذي تدرج فيه حتى بلغ مساعد الامين العام للامم المتحدة. ويتطلع المركز الى ان يجري مزيداً من الحوارات بين المعارضات الدارفورية العسكرية والقادة الحكوميين، حتى يستطيع بناء ثقة تفضي الى اتفاقيات في مسارات مختلفة من العملية السلمية، مع توسيع مظلة مجالات تقديم المساعدات الانسانية. ويصادف ايضا رحيل عم جابر نهاية فترة عمل مساعد الأمين العام للأمم المتحدة الدبلوماسي أشرف قاضي الذي خبر تفاصيل المجتمع السوداني الذي يمر بحالة كان يحتاجه فيها، رغم انه استجاب لظرف عائلي وهو مقدم على العام، وبرحيله ورحيل عم جابر تبقى ثقوب سوداء كثيرة في جدار العمل الإنساني والطوعي تحتاج إلى من يسدها حتى تعبر السفينة هذا المحيط الهائج من الظرف الآني بالسودان. وعم جابر لا ندعو وزارة الشؤون الانسانية الى ان تكرمه باطلاق اسمه على شوارع المدينة أو تقام منظمة أو مدرسة باسمه، وهو يستحق ذلك بل أكثر، ولكن لو تطلق اسمه على احدى قاعات اجتماعاتها حتى يتذكره المجتمعون فيها فلا باس، فهلاَّ فعلت؟ إنه لحوار إنساني بين هنري دوقان القاصي والمرحوم عم جابر الداني، وبين القادة الحكوميين المسؤولين المؤثرين في نزاع دارفور الداني، وبين المعارضين حيث الصراع القاصي.