كان صباحاً ندياً من صباحات أواخر الخمسينيات في القرن الماضي، عندما دلف عم أحمد «المراسلة» بمشروع ود نمر الزراعي إلى مكتب المفتش الزراعي مجتبى بقرية الصوفي بالنيل الابيض.. تثاقلت خطاه وانقبض قلبه وهو يدخل الى مكتب المفتش حيث يواجه تحقيقاً تأديبياً ربما لقصور في أداء واجبه كعامل في مكاتب التفتيش الزراعي الذي يشرف على المشروع. ولم يستغرق الأمر طويلاً مع المفتش الزراعي مجتبى ليوقع على عم احمد عقوبة خصم ثلاثة ايام من مرتبه البالغ خمسة عشر جنيها... أي جنيه ونصف، ولكنه ترفق بالرجل وراح يوضح له أن بإمكانه استئناف تلك العقوبة عبر التسلسل الوظيفي المعهود في الخدمة المدنية. وقتها خرج عم احمد دون أن ينبس بكلمة، وبعد بضعة ايام التقاه المفتش فسأله إن كان قد تقدم بالاستئناف فأجاب الرجل وباقتضاب أنه تقدم بالاستئناف المطلوب ولم يزد. التبس الامر على المفتش مجتبى وظن أن الرجل ربما لضعف تعليمه وقلة حيلته قد أخطأ الفهم في كيفية تقديم الاستئناف، فراح يشرح له أن الاسئتناف يجب أن يقدم عبر مكتب المفتش نفسه الذي يرفعه بدوره الى مدير المشروع ليفصل فيه، كما يمكنه أن يستأنف قرار المدير الى الوكيل وقرار الوكيل الى الوزير، وهكذا. لكن عم احمد باغت المفتش الزراعي مجتبى وهو يقاطعه قائلا: «يا جناب المفتش انا الناس ديل كلهم ما بعرفهم.. لا بعرف المدير أو الوكيل أو الوزير، لكن استأنفت لي الله سبحانه وتعالى».. ووقع القول كالصاعقة على قلب المفتش مجتبى العامر بالايمان، وارتجت نفسه فأطرق لحظات طوال وهو يستغفر في سره، ثم ما لبث أن أدخل يده في جيبه وأخرج جنيها ونصف الجنيه دفع بها الى عم احمد وهو يقول: «يا عم أحمد هاك الجنيه ونص القطعتهم منك في التحقيق، وحكاية الاسئتناف الى ربنا سبحانه وتعالى دي عاوزك تاني تشاورني فيها قبل ما ترفعا». هذه القصة الحقيقية على ما فيها من موعظة وطرفة، حدثت قبل نصف قرن من ايامنا هذه، مما يدلل على أن أهلنا في السودان كانت قلوبهم عامرة بالايمان ومخافة الله وما زالت... فعم احمد قد اختصر «اجراءات التقاضي» ووفر على نفسه عنت تدبيج استئناف على ورقة فلسكاب، واختار الطريق الأسهل والاقرب.. مجرد رفع يدين شعثاوتين غبراوتين تحملان ظلامته الى رحمن رحيم على العرش استوى ... والى محكمة لا يرد عن بابها مظلوم ولا تسقط فيها جرائم الظلم بالتقادم . محكمة «انعقد لها الاختصاص» على كل ما في الأرض من بشر وكائنات حية، فهي تجود بالعدل والانصاف، وتقتص حتى للهرة التي أجاعتها صاحبتها، وللبغلة العاثرة التي لم يُعبد لها الطريق. هكذا كان حال أهل السودان قبل نصف قرن بل قبل عدة قرون.. قلوب عامرة بتقوى الله ومخافته، ثم جاء أهل الانقاذ وهم يتوهمون أنهم جند الله.. جاءوا بمشروعهم الحضاري في نهايات القرن العشرين ليقوضوا دولة الشرك والبغي ويملأوا الارض عدلاً بعد أن مُلئت ظلماً وجورا، وفي ثنايا ذلك المشروع ترقد نصال «الصالح العام» التي أُعملت في رقاب وأزراق آلاف الأسر، فشردت من شردت ومازال صليل تلك النصال يفجع القلوب.. قلوب نقيَّة تقيَّة كتبت بجوعها وغبنها ودمعها استئنافاً إلى المولى سبحانه وتعالى.. قلوب كقلب «المراسلة» عم أحمد والمفتش الزراعي مجتبى بقرية الصوفي الوادعة على النيل الأبيض.