شهدت القاهرة وقائع الندوة التي نظمها المجلس الاعلى للثقافة «مصر» وضمت نقاداً ودارسين من مختلف أنحاء الوطن العربي. وفي الافتتاح تحدث د. عماد أبو غازي الأمين العام للمجلس ود. أحمد درويش رئيس لجنة الدراسات الادبية واللغوية - مقرر الندوة، اللذان رحبا بالحضور وتحدثا عن سياسات المجلس تجاه خدمة قضايا الثقافة العربية. ومن الأوراق التي قدمت ورقة بعنوان «النقد الثقافي: موت الجمالي الرسمي ومولد القبح والهامش للدكتور بشير العندي. وهدفت الورقة إلى الرد على بعض ادعاءات سطرها بعض النقاد العرب عن النقد الثقافي، الذي تحول عندهم الى بشارة لنعي النقد الادبي واعلان موته ليولد على انقاضه النقد الثقافي، وما يطرحه من نفي للجمالي واحتفاء بالقبيح والهامشي. إن النقد الادبي العربي يجب ان يكون أفقاً مفتوحاً رحباً يأخذ من الآخر ويبحث عن ضالته في النقد العالمي ومناهجه انى وجدها دون تحجر أو تكلس، ما لم يكن ذلك ضيماً على النقد العربي ومكتسباته على مر تاريخه، وما لم يقع في أحبولة الانبهار بمناهج وافدة لدرجة التماهي وفقدان الهوية بل لدرجة الوأد باسم الانسداد المعرفي. ويقول د. العندي «وأنا لا أعرف نقداً أدبياً لأمة الأمم - مهما كانت حالة انسداد أفقه المعرفي حرجة، واجتراره لمقولات ونظريات لم تعد تقدم شيئاً ذا بال في نقد النص الادبي - بل ومهما كان تخلفه وتقليديته - يمكن ان يكون مبرراً ان يستبدل به اتجاه نقدي واحد، أو عدة مناهج نقدية، مهما عظمت امكاناتها وتطورت آلياتها علامة على أنها تنتمي الى منظومة ثقافية وفكرية وحضارية لأمة أخرى تقتضي آليات منظومتها رفض السكونية والثبات وإجراء التعديل والتطوير والتغيير بشكل دائم في شتى مناحي الحياة ومن ضمنها المناهج النقدية. وجاءت ورقة د. بطرس حلاق «سوريا» عن ازمة الناقد اليوم «إن مفهوم النقد نفسه تغير مع نشوء مناهج نصية جديدة لصيقة بالعلوم الانسانية وبعض العلوم الانسانية المستحدثة، فليس من السهل على الناقد التكيف مع هذه التحولات كافة». وخلص بطرس حلاق الى ان ازمة الناقد هي جزء من ازمة المثقف والمجتمع المدني، بل وازمة تواجهها العلوم الانسانية على المستوى العالمي في فترة تاريخية هيمن فيها منطق الاقتصاد والانتاج، بحيث تقلص دور السياسي نفسه.. وتناول الممارسة النقدية العربية الراهنة.. وسنعود إلى هذه الدراسة بشيء من التفصيل. وقدم د. حاتم الفطناسي ورقة عن «الخطاب النقدي العربي المعاصر - سؤال هوية أم سؤال كفاءة»، وقدمت الورقة رؤية في هوية الخطاب النقدي وتقييمه بين الفينة والاخرى من مواقف تتوزع بين اتهامه بالاغتراب عن بيئته المعرفية والثقافية ونشازه مع المدونة الابداعية التي ينكب عليها. وبين الاعتقاد بنجاعة المنهج «المستورد» من «الآخر» فيه، والايمان بضرورة تطبيقه تطبيقاً حرفياً مما قد يسمه بالتحجر والدوغمائية. والمراد من كل هذا تنسيب الأحكام والتعامل مع المنهج باعتدال ووسطية، هما من جوهر العلم ومن انسانية المادة الاولية ذاتها، مما يجعل الهدف المرتجى من هذا الخطاب لا يخرج بحال من الاحوال عن مبدأ النجاعة أولاً وأهلية المادة النقدية ثانياً وتلقيها في خطاب يتميز بالصلاحية، فيتلاءم مع خصائص الخطاب الابداعي الذي يتعامل معه وينفعل به. وقدمت الباحثة السورية د. رشا ناصر العلي ورقة عن ركائز السرد النسوي، وتحدثت عن التدميرية والبنائية «بتحرك السرد النسوي في بناء نصوصه على تقنيتين رئيسيتين تتحكمان في مسار الأحداث، ورصد الوقائع وبناء الشخوص، هما: التدمير والتكوين: تدمير الواقع الثقافي القائم بكل انساقه الظالمة للأنثى، وانشاء واقع جديد يلغى علاقة المفاضلة التي سيطرت على ثنائية الذكر والأنثى، وأعلت الطرف الاول على الثاني إعلاءً مطلقاً». وفي التمهيد لهذا الهدم، يعتمد السرد على عقد مقارنة بين السلطة الذكورية السائدة في المجتمع العربي، والسلطة الذكورية الواعية في المجتمع الغربي، وهو ما استدعى حضور بعض الشخصيات من جنسيات أخرى وزرعها داخل النص، بحيث تكون محملة بتقاليدها الثقافية والاجتماعية التي لا تفرق بين الجنسين في الحقوق والواجبات، أي أن النصوص السردية حولت ما يسمى «صدام الحضارات» إلى نوع من حوار الحضارات. ولقد تميز السرد النسوي بطبيعته النسبية، فلكل نص خصوصيته التي قد تتوافق مع غيره من النصوص، وقد تخالفه بالنقص أو الزيادة، بمعنى أن هذا السرد لا يتقبل الأحكام الكلية أو المطلقة، إذ هو رهن ببيئته ورهن بانساقها الثقافية، ورهن بمجموعة العادات والأعراف التي تسود في بيئة بعينها، لكنها قد تكون مغايرة بعض التغاير مع بيئة أخرى. وقد اعتنى السرد النسوي بحضور الانثى بما يتفق مع طبيعته، وبخاصة أن المنتجة تنتمي الى الانوثة، ومحملة بخبرة ذاتية تتيح لها أن تقدمها تقديماً صحيحاً، وقد اتجه السرد الى مستويين من الاناث: المستوى الاول هو الانثى النمطية التي تكاد تكون خاضعة خضوعاً مطلقاً لانساق المجتمع وتقاليده واعرافه، أما المستوى الثاني فهو الانثى المتمردة، ونعني بها تلك التي فقدت ثقة الايمان بالاطر الثقافية القديمة التي حصدتها بالهامش، وطبقت الخناق عليها.. وعلى نحو استحضار السرد النسوي للانثى في قسمها النمطي والمتمرد، استحضر الذكر في هاتين الحالتين. وقدم د. عبد السلام المسدي «تونس» ورقة بعنوان: «النقد والثقافة: أسئلة البدايات» وقال المسدي «ان النقد نقود:- نقد النص، ونقد صاحب النص، ونقد الجمهور المتلقي للنص. وان الواقع الثقافي مراتب ومنازل: واقع الثقافة من حيث هي معيشة وسلوك، وواقع الثقافة من حيث هي ابداعات وفنون، وواقع الثقافة من حيث هي علوم ومعارف، ويقف النقد الادبي في هذه المرحلة من التاريخ الانساني على حافة منعطفات دقيقة يلخصها التجاذب الحاصل بين اقتضاءات جديدة على غاية من التراكب والتعقيد. فالنقد موضوعه الادب والادب مادته اللغة، وقد اعترى نظرة الانسان إلى ادائه اللغوي تغيير جذري منذ تطورت معارفه فيها بشكل يدفعه إلى الاشفاق على نفسه في كل ما يحمله منها من قناعات كبرى، فكان لزاماً أن يراجع الإنسان كل تصوراته حول الأدب، ثم كان لزاماً أيضاً أن يراجع مبادئ العلم الذي يتخذ الأدب موضوعاً له على حد ما راجع العلم الذي يتخذ اللغة موضوعاً له. وخرج الأدب في الوضع الانساني الجديد من الدوائر التي كانت تحاصره في أمر علاقته بالمجتمع، فتخطى كثيراً من الثنائيات الضدية الشائعة، واستقر به الوضع على حقيقة جديدة هي انه كيان رمزي ذو منزلة محظوظة بين عوالم الرمز التي يتألف منها معمار الجماعة، ولهذا السبب أضحى وجيهاً أن يتعامل مع الادب على انه شهادة ثقافية أكثر مما هو رسالة اجتماعية. وهما روحان متلازمان على ألسنة الناس وعلى ألسنة أقلامهم: الأدب والنقد، يرتبونهما بحسب الايقاع اكثر مما يراعون في تعاقبهما ضرورات الدلالة، فمن ابتدر بالادب وثنى بالنقد قد لا يفطن الى انه اقتفى خطى الزمن بذكر السابق فيه على اللاحق، وانه انزل فعل الادب من فعل النقد منزلته السببية. ومعلوم أن العلة سابقة لمعلولها في النشوء، بل وفي التصور ايضاً. ومن قال النقد والأدب قد لا يعني أنه قفز من وراء الزمن وألغى شرط التوالي، وثبت ناظره على سببية مركبة: فلا أدب إلا وينشد نقداً ولا نقد إلا وهو مستجيب للاستدراج إن احتفاءً أو نفوراً. ومن الممكنات في حياتنا أن الأدب قد يكون ولا يكون نقد، وان النقد لا يكون إن لم يكن أدب، ولو تبصرنا لعرفنا أن الأدب لا يكون إلا بكينونة النقد، ويكفي أن تسمية الادب ادباً هو فعل من أفعال النقد، بل هو الفعل النقدي بامتياز. فما من شاعر ينظم ولا ناثر ينثر إلا وكلاهما يتخيل منذ يفوه بكلمته الاولى أن هاتفاً يناديه حاملاً إليه صدى سامع يسمعه أو قارئ يقرأه، فلا نغالي لو زعمنا أن لحظة ميلاد الفعل الابداعي هي نفسها التي يتخلق فيها انتظارنا ميلاد الخطاب النقدي. النقد هو أن تكون صاحب حق شرعي في أن تسكن داخل بيت الادب، فتختار ان تخرج منه لتضم لنفسك بيتاً يحاذيه، فيشارفه، وتطل منه عليه دافعاً به الى موالجته، فمسكنك الجديد هو بيت النقد والناقد ينتمي الى الادب انتماء ضرورة، بينما ينتمي الادب الى النقد انتماء صدفة او انتماء اختيار، وفي الدائرة الاولى يتشكل الحس النقدي، وفي الدائرة الثانية يتشكل الخطاب النقدي. إن النقد معرفة ويطمح أن يكون علماً، ولكن علم بغيره وليس علماً بنفسه، والسبب أن موضوعه الذي هو القول الادبي ليس معطى جاهزاً من معطيات الطبيعة، وليس واقعة عارضة من واقعات الوجود، وانما هو نفسه شاهد على فعل ابداعي يؤلفه الانسان ولا يؤلفه أي انسان كما اتفق، ولكن النقد خصيصة يمتاز بها عن سائر المعارف التي تعوض له هذا الخسران الظاهر اذا ما قيس إلى غيره. ذلك ان النقد يتمتع بصلاحية الاختراق، شأنه شأن العلم اللغوي، فكلاهما قادر على أن يلج الى كل العلوم الأخرى من خلال التأمل في بيئة خطاباتها، أما المعارف التي لها الاستطاعة على اختراق حدود موضوعها نحو حدود غيرها فمحدودة، والتي منها متخول لها أن تقتحم مجال النقد فأقل عدداً. إن هذا السياق سينزل طرحنا لاشكال النقد الادبي والواقع الثقافي، آملين ان فلسفة السؤال هي نفسها ركن من أركان التأسيس الابستيمي حتى لو لم تحظ الاسئلة بالاجابات التي تروي كلياً ظمآن المعرفة. وكان الدكتور جابر عصفور قد ألقى محاضرة عن الأسئلة التي تواجه النقد الأدبي، مستعرضاً مسيرة النقد العربي، طارحاً رؤية حول فهم الناقد للمعاصرة وللتراث.. والتكامل في شخصية الناقد الحديث - وسنقدم عرضاً تفصيلياً لهذه المحاضرة القيمة في أعدادنا القادمة.