٭ ابديت عدم ارتياحي لانحسار دائرة الاطلاع والاهتمام بالشأن العام وسط الشباب من الجنسين في جلسة عفوية جمعت أكثر من جيل.. وعزوت ظهور كثير من الاهتمامات الهامشية لسيادة الفضائيات ولعدم الاطلاع اللذين يؤديان إلى عدم التفاعل مع هموم الإنسان السوداني بصورة عامة. ٭ ولكن سرعان ما وجدت نفسي وسط أمواج من كلمات العتاب القلق الملتهب واللوم الحزين تدافعت الى اسماع الحضور.. الشباب غاضبون على ما قلت وكلماتهم الصادقة المدفوعة بمشاعرهم تتأرجح بين الغموض والحيرة والتمرد والخوف وعدم الارتياح.. انهم يأملون في تأكيد وجودهم وذواتهم.. كلماتي كانت مجرد صرخة غضب من أعماقي الى أعماقهم.. حاصرتني وجعلتني مشلولة التفكير.. توقفت لأغرق نفسي في تأمل صامت.. أشفقت على حالهم وعلى حالي.. لكنها من باب الشفقة وحدها لا تكفي.. لأنها وسيلة العاجزين الذين لا يملكون وسائل الفعل الايجابي. ٭ لملمت أطراف شجاعتي وأحدثت ثغرة في جدار الحصار السميك.. وقلت لهم على رسلكم.. ألم توافقوني بأن الحقيقة التي وصل اليها وجسدها الانبياء والقديسون والمفكرون وعلماء الاجتماع.. هى ان الانتصار وتأكيد الذات وقيمة الانسان او الاستسلام والاحباط والانحراف لا تزيد عن كونها ردود أفعال ملموسة للتقاليد والعادات والقيم والاوضاع السياسية بنظمها الاقتصادية والاجتماعية. ٭ ومن هنا كان استغرابي من الذين تعتريهم الدهشة للتمرد الصامت والانصراف اللا مبالٍ الذي يعانيه الجيل الجيد. فشبابنا يصرخ فعلاً .. لا أخطر ما نعيشه الآن وبفعل سياسات كثيرة ضربت البنية الاجتماعية في موجع هو أن الكثيرين جعلوا من الأنانية فضيلة.. والانماط الشرهة تدفع بهم الى المبارزة والسباق في الخطف والاقتناء والحسد والحقد والغيرة والبعد عن الحب والتعاون.. والشرفاء وحدهم لا يملكون إلا القلق والحسرة والألم.. وكلها أشياء لا تفيد بل ربما تورث عدم الثقة والانطواء والضياع. ٭ ولأننا نغفل عن الواقع الذي يشكل تربة صالحة لزراعة التمرد والكبت في وجدان شبابنا.. علينا ألا نستغرب النتيجة عندما تنمو في وسط المجتمع.. وعلينا ألا ننسى أن ما تزرعه السياسات يحصده المجتمع. ٭ الحب ثماره الحب، فهل بذرنا بذوره؟ والحنان ثماره الحنان، فهل غرسنا شتوله؟ والاطلاع ثماره المعرفة فهل اقمنا المكتبات العامة وجعلنا الكتاب والمجلة والصحيفة في المتناول؟ ٭ والعنف ثماره العنف، وهذا ما نجنيه الآن.. نجنيه في مصانع مستقبلنا في الجامعات والمعاهد العليا.. لأننا غفلنا وتساهلنا عندما رأينا البعض يبذر بذوره اللعينة. ٭ ابنائي وبناتي لكم العتبى حتى ترضوا.. واملي فيكم مازال أخضر، علنا نجهز الارض ونبذر بذور الحب والمعرفة. المحطة الثانية الرشوة ٭ التيار الكهربائي يمارس هذه الأيام نوعاً من التمنع والدلال ما عرفتهما ساحة قطوعاته المتواصلة في جميع فصول السنة.. ففي الصيف قبل هطول الامطار يتعذر بانحسار النيل وضعف طاقة التوليد، وفي الخريف بسبب غرق المولدات في الطمي واعشاب الفيضانات.. وهذا العام لم يحدثنا احد عن السبب.. وتركت هيئة الكهرباء لتيارها خيارات التمنع والدلال والحرد والهجمة نعم الهجمة.. فهذه الايام التيار يغيب ويغيب ثم فجأة يهجم بلا استئذان ويسبب موت الاجهزة الكهربائية.. الموت الفجائي نتيجة السكتة القلبية الناتجة عن الصدمة. ٭ استغفر الله ما مناسبة هذا الحديث عن الكهرباء وعلاقته بالعنوان الرشوة. ٭ التيار كان منسحباً كعادته مما جعلني أشارك في مجلس صغير كان كل الحديث فيه عن ظاهرة الرشوة التي أخذت تتفشى بصورة مزعجة في دواوين الحكومة، وفي كل منحى من مناحي الحياة في السودان. ٭ كل الذين تحدثوا سردوا الأعاجيب من الاساليب المستحدثة لأخذ الرشوة، والأسماء العديدة التي تطلق عليها إلا اسمها الحقيقي مثل «تسهيلات، واكرامية، حاجة كده، حق الشاي، مسح الخشم» أسماء كثيرة وتبريرات أكثر. ٭ كان الكل يتحسر ويستنكر تعاظم هذه الظاهرة في المجتمع السوداني الذي كان يستهجن هذا ويرفضه، ويرفض أكثر تبريره بضيق الحال ووضع موظفي الدولة الذين أصبح دخلهم لا يغطي متطلبات الربع الاول من الشهر.. والفريق الآخر يرى أنها كارثة ونذير شؤوم أن تكون العلاقة بين المواطنين اصحاب الحاجات وبين الذين يشغلون مواقع حكومية تتصل بانجاز هذه الحاجات التي هى حقوق لهؤلاء المواطنين وواجبات على الذين يقومون بها. ٭ واتفق الفريقان في النهاية على أن الصورة المثلى هى ما رأى الفريق الثاني.. ولكن المأمول والمفروض شيء والواقع شيء آخر، والحقيقة أن اسقاطات الواقع الاقتصادي السلبية قد شملت كل شيء، وهذا ما يجب ان يكون محل الوقفة والانتباهة. المحطة الثالثة عندما يتكدر نهر الحب ٭ لماذا يضرب الزوج زوجته؟ ولماذا تضرب الزوجة زوجها؟ تساؤل ملأ كل غرف ذهني وأنا استمع لإحدى الأمهات تروي بحرقة وأسى.. كيف أن ابنتها الوحيدة خذلتها ورفضت أن ترفع قضية تطلب فيها الطلاق من زوجها الذي ضربها.. بسبب تافه، وهو سؤالها له عن سبب تأخير عودته للمنزل. ٭ اتسعت دائرة التساؤل وتزاحمت بالمفهومات الاجتماعية في كل أنحاء العالم، أو بالأصح تساؤلات حول مفهومات الحياة الزوجية.. هذه المؤسسة المقدسة وموقعها في دائرة العنف ضد المرأة الذي تعقد له الندوات وتقام له المؤتمرات وتبرم له الاتفاقات. ٭ في كثير من البلدان العربية إن لم تكن كلها اول سؤال يوجهه الرجال لاصدقائهم من الازواج الجدد.. هل ذبحت القطة؟ ٭ لا يوجد رجل شرقي أو عربي لا يعرف معنى ذبح القطة.. انه تعبير يرجع الى حكاية تروى بأن على العريس الذي يريد أن يرهب الزوجة من «ليلة الدخلة» ويقفل أمامها باب «النقنقة» وكثرة المطالب وعدم الطاعة.. عليه في ذلك اليوم أن يفتعل أي موقف يغضبه من القطة التي تزعجه، ويقوم بذبحها وفصل رأسها عن جسدها، وبعدها يبتسم الى «عروسه» كأنه يقول لها ألم تري مصير الذي يسبب الازعاج والغضب. ٭ لكن أيضاً في بعض الأحيان توصي الأمهات أبناءهن المقبلين على الزواج بأن يظهروا العين الحمراء لزوجاتهم من اليوم الاول.. يعني تحريض من المرأة ضد المرأة.. وهناك بالمثل الأمهات اللائي يوصين بناتهن بألا يحقرن الراجل فيهن من أول الأيام، أى لا تبدي الطاعة من أول وهلة. ٭ ويستمر عندي التداعي في الخواطر حول هذا الموضوع، فقد قرأت إحصائيات أمريكية تقول إن ستة ملايين زوجة يضربن أزواجهن سنوياً في أمريكا، والمحاكم البريطانية تكتظ بالقضايا التي تتحدث عن ضرب الأزواج لزوجاتهم. ٭ في الهند واندونيسيا وإفريقيا واستراليا الكثير من نماذج العنف العائلي المتمثلة في ضرب الازواج لزوجاتهم وفيها قليل.. قليل جداً من قضايا ضرب الزوجات لازواجهن. ٭ يقول عالم الاجتماع المعروف «سترادس» وهو خبير في موضوع العنف العائلي، إن اكثر من «282» ألف امريكي تضربهم زوجاتهم كل سنة، ولكن كرامتهم بوصفهم رجالاً تمنعهم من الشكوى للسلطات. ٭ إذن المسألة لا تخص الرجل السوداني أو الشرقي او العربي او الامريكي، وإنما تحدث في كل إنحاء العالم، وتحدث على كل المستويات.. هل لأن الرجل لا يريد ان يتغير ويغير نظرته الى المرأة؟ هل لأنه لا يزال ينظر اليها على أنها «ملك خاص» يحق له ان يفعل بها ما يشاء. ٭ إنهالت أمامي الأسئلة.. هل تحترم المرأة الرجل الذي يضربها ويهينها ويجرح كرامتها ويبعثر مشاعرها؟ ٭ كل هذه الخواطر تزاحمت أمامي بفعل كلمات تلك الأم الغاضبة والزوجة المستكينة، ورأيت ان الاجابة على هذه التساؤلات تحتاج الى مداخلات صادقة، شريطة أن نبتعد عن روح الحرب بين الجنسين، أي الرجل والمرأة. ٭ وأنا في الآخر أقول الحقيقة التي أؤمن بها، وهى أن في كلا الحالتين إن كان المعتدي الزوج او الزوجة.. عندما يقع الاعتداء بالضرب يكون نهر الحب قد تكدر بأول بقعة حقد، وإن استمرت حياة الزوجين معاً. ما رأيكم أنتم؟؟