«يا جمال النيل والخرطوم بالليل» مقولة ظلت ملازمة لخرطوم اللاءات الثلاث الشهيرة.. خرطوم ملتقى النيلين الذي يفوق نعيم كل مكان و«يا الخرطوم العندي جمالك جنة رضوان» كل هذه المقاطع تزاحمت للخروج إلى حيز الوجود أمام بوابة ذاكرتي التي اختزنت تلك المعاني في ركن قصي وكادت تلقي بها غير آبهة في سلة المهملات، لولا أن نفض الغبار عنها نسيم بعض النفحات التي تأخذ بتلابيب المرء قسرا من بعض الجهات التي لم تفتأ تقاتل من أجل الحياة المفعمة بالأمل والثقافة والنقاش، بعيدا عن كبد وشظف العيش الذي سيطر على مجريات حياة الغالبية العظمى من بني جلدتنا إلا من رحم ربي من من أنعم عليهم ببسطة في المال وأغدق عليهم نعمه ظاهرة وباطنة وإن شابها شيء من التساؤل غير البرئ من أين لك هذا؟ وحتى لا يجرفنا تيار المآسي لنعد إلى ما نحن بصدد تناوله في هذه المساحة عن ومضات وإشراقات بعض الدور والمؤسسات التي آلت على نفسها عودة الخرطوم إلى سابق ألقها وحيويتها الثقافية والكتابية والقرائية، حتى تعود إليها مقولة «الخرطوم تقرأ» التي ظلت ملازمة لها ردحا من عمر الزمان قبل أن تخفت السنون بريقها وألقها. فمنتدى روان ومؤسسة أروقة للثقافة والفنون ومنتدى الخرطومجنوب ومركز راشد دياب، كلها واجهات قطعت على نفسها عهدا بألا تنتكس راية الفن والإبداع والألق والضياء في زمن كثر فيه العناء وانتشرت الأدواء، بالرغم من أن تلك المؤسسات أو الواجهات نفسها لم تسلم من نهشات الزمان وتغوله على مسيرتها الغضة سامية الهدف والمعنى، فكثيرا ما يصيبها الوهن والهزال حتى يقعدها عن مواصلة المشوار، بيد أنها سرعان ما تنتفض من وهدتها التي تعتبرها استراحة محارب لم يوهن أو تلن له قناة، فينحني إلى عواصف ورياح قلة الإمكانات وقصر يد الماديات حتى تنجلي، فيستعيد قواه. ولعل منتدى روان الأسبوعي السامق في أمسية كل أربعاء من ليالي الخرطوم «2» خير ما يمكن الاستشهاد به، فلعل ذات السبب أو غيره أقعده عن مواصلة لياليه وأمسياته الثرة لفترة من عمر الزمان في الفترة الماضية، فافتقده رواده، لكنه عاود الإطلالة بقوة قبيل ثلاثة أسابيع، فناقش المنتدى الأول قضية تواصل الأجيال في مشوار الأغنية السودانية بين الفنانين السابقين واللاحقين، فهي بلا أدنى شكل تهم كل قطاعات المجتمع بصورة أو بشكل آخر من قريب أو بعيد، فأبحر بالحضور لفيف من المختصين يحدوهم كتلة الإبداع الجم المتحركة المبدع الإنسان سعد الدين ابراهيم، وتناولت الحلقة الثانية موضوع التزاوج الجنوبي الشمالي وأثره على الوحدة والثقافة والمجتمع عالي الأهمية لكل إنسان ذي صلة أو شيجة بالسودان. وقد تناول المتحدثون في المنتدى تجربة الزيجات الجنوبية الشمالية ما لها وما عليها والعقبات التي تعترضها، ورأوا أن الانصهار الاجتماعي بين الشمال والجنوب لولا ما زرعه المستعمر البغيض بما ابتدعه من مناطق مقفولة شكلت حواجز وموانع ولدت الحقد والغل والبغضاء بين أبناء الوطن الواحد، لكان الوضع أفضل مما كان. وتم عرض نماذج لبعض الزيجات بين الشماليين والجنوبيين التي كتب لها النجاح. وشد ما لفت انتباهي صراحة المتحدثين في المنتدى، وتناولهم الصريح دون مواربة للقضية التي يعتبر البعض الحديث عنها ربما قاد إلى تجاوز بعض الخطوط الحمراء التي لا ينبغي المساس بها. ولعل الأستاذ المحاضر شول دينق كان أوسعهم باعا في هذا المجال، إذ لم يتوان في الصدع بما يرتجف البعض ويتحاشون ذكره من مبررات، مثل عبارة أن من يتزوج شمالية أو شماليا يتزوج جنوبية لن يسلم من الوصم بالعبودية، رغم أن الدين الإسلامي نبذ التمايز العرقي وجعل المقياس للتفاضل بين الناس التقوى، وليس العرق أو اللون أو المنبع. وبقية المتحدثين رأوا أن التزواج بين الشماليين أو الجنوبيين لو أطلق له العنان ورفعت عن كاهله القيود الاجتماعية، لانصهر الجميع في بوتقة واحدة يصعب الفكاك والانفلات منها. وأكثر ما لفت انتباهي وراعني في آن واحد ما ذكرته إحدى الفتيات التي قدمت نموذجا وثمرة لزيجة شمالية شرقيةجنوبية، متسائلة عن مصيرها إن تم الانفصال بين الشمال والجنوب، لا قدر الله، بعد الاستفتاء في مطلع العام القادم، فإلى أية وجهة تيمم شطرها إلى الشمال حيث أمها وجدتها وخؤولتها، أم إلى الجنوب الذي ينحدر منه والدها وينعم بالعيش فيه عمومتها وأنسابها العليا من أبيها. فمنتدى روان بطرقه وتطرقه لهذا الموضوع الاجتماعي الحيوي المهم، لم يقذف حجرا بل دلق بعض المسكنات بغية تهدئة أمواج بركة الاستفتاء وتقرير المصير متلاطمة الأمواج التي انقسم الناس حولها بين مناصر للوحدة وآخرين منافحين عن الانفصال من الشمال والجنوب على حد سواء. ففي رأيي أن تناول الوحدة بين الشمال أو الجنوب بالكيفية التي عرضت في روان أكثر وقعا في النفوس من التطرق إلى الجوانب الاقتصادية والمادية البحتة التي ما إن ذكر الانفصال أو الوحدة إلا طفرت إلى مخيلة العامة ماذا سنكسب من الانفصال وما الذي نخسره في الموارد الاقتصادية، دون التطرق إلى النواحي الاجتماعية والإنسانية، فلكأني بالقائمين على أمر روان أرادوا بث رسالة إلى الجميع بأن تأملوا وقلبوا أمر الوحدة والانفصال من كل الجوانب، وألا يكتفوا بقصر نظرهم وعجزه عن الرؤية أكثر من أرنبات أنوفهم، والانقياد إلى الانتصار إلى الذات حتى ولو تعارض مع مصلحة البلاد والعباد. ولنسأل من يجأرون وينادون بالانفصال من الشماليين والجنوبيين، ما الذي يمكن يحققه الانفصال من مكاسب للطرفين أو على الأقل إلى الطرف الذي ينتمون إليه؟ ولنقف ونشطح بخيالنا لنقف على حال الشمال بعد الانفصال إذا ما تم لدعاة الانفصال مناهم الذي أتمنى من سويداء فؤادي ألا يجد مهدا على أرض الواقع.. نعم سيتخلص الشماليون من هتافات الوصم بالتعالي والغطرسة والإزدراء من قبل الشماليين على الجنوبيين، وسيتوقف نزيف الصرف على الجنوب، غير أنه في نفس الوقت يكون هؤلاء القوم قد فتحوا على أنفسهم أبوابا يصعب إيصادها من تفلت كثير من الأقاليم من عقال الوطن التي منها ما هو ممهد له المسير على درب الجنوب، مثل مناطق النيل الأزرق وجنوب كردفان وأبيي وربما دارفور والشرق الذي ألهبت ظهره المحن وأثخن جلده التمرد، فهل يا دعاة الانفصال ستسمحون لهؤلاء بالانفصال إن أرادوا الخروج عن جسد الوطن؟ وقبل انتظار الإجابة عن تساؤلي هذا أردفه بسؤال آخر يفند دعاوى الانفصال لمجرد المرض أو الوهن أو الاختلاف، فإذا ما مرض عضو من جسد المرء أيهون عليه بتره دون أن يطرف له جفن، أم أنه يعمل وسعه في مداواته وعلاجه ما استطاع الى ذلك سبيلا، وإن انسدت أمام ناظريه السبل ووقفت حيلته عاجزة واستكان واطمأن أن بقاء العضو به ضرره أكثر من نفعه يقدم على بتره وفي النفس حسرة، فلم الزهد في جزء عزيز من وطننا والمطالبة بفصله دون تلكؤ غير مأسوف عليه. وأقول إن التأريخ لا يرحم وذاكرته لا تتجمل، وسيسرد أنه في زماننا هذا قد فرطنا في جنوب الوطن ووحدته التي ورثناها من آبائنا وأجدادننا، فهل من عجز وعار يلطخ جبيننا أكثر من أننا أسهمنا في تفكيك وحدة الوطن ولم نقو على صونها ورتق نسيجها الاجتماعي، فاتسع الفتق على الراتق منا، فأسلمنا الجنوب إلى بنيه وزهدنا في أية وشيجة تجمعنا به، وبعدها لا يهمنا أمره إن ذهب إلى الجحيم أو غرق في النعيم. ونفس التساؤل عن دواعي الانفصال نطرحه على متبنيه من الجنوبيين، ما الذي أضاعته لهم الوحدة ويمكن أن يسترده الانفصال؟ وبحساب بسيط يجد المتأمل لحال الجنوب الآن، وحتى نكون أكثر دقة لنقل بعد توقيع اتفاقية السلام الشامل في عام 2005م أصبح لأهله بأكمله دون أدنى مشاركة من الشماليين، ودون الحجر على الجنوبيين بالمساهمة في حكم وإدارة الشمال بما لا يقل عن 20%، فبنفس الحساب إذا ما تم الانفصال فإنهم صحيح سيكسبون الجنوب، بيد أنهم حتما سيخسرون ال 20% في حكم الشمال. وفوق ذلك سيجدون أنفسهم أمام واقع اقتصادي وسياسي واجتماعي غريب. ولما لم يكن لهم رصيد من التجارب وبحكم أن دولتهم ستكون حديثة التكوين، فإن جميع العقلاء يرون أن ثمة مصاعب جمة ستكون في انتظارهم. ولعل المناظر منها قد طفت على السطح من الآن، وليس تمرد أطور وقاي إلا بداية لسلسلة تفلتات يتوقع أن يشتد أوارها بعد الانفصال، إن كان الخيار الراجح لأهل الجنوب وبنفس المرجعيات التي ورد ذكرها في الدعوة لتغليب خيار الوحدة، وأن يرعوي انفصاليو الشمال عن دعواهم النتنة لتقسيم السودان إربا إربا جراء قصر نظرهم، فعلى الجنوبيين أن يعملوا عقلهم وفكرهم وإخضاع أمر الوحدة والانفصال إلى العقل لا العاطفة والشعارات الرنانة التي في كثير من الأحيان تترك عند «الفرقة»، فيصبحوا على ما فعلوا نادمين، وعندها لات ساعة مندم، فيصعب عليهم ردم الهوة ورأب الصدع، حيث لا ينفع البكاء على لبن الوحدة والتماسك المدلوق على رمل اللهث خلف سراب أماني الانفصال الزائفة. وعودا على بدء، فإن تطرق منتدى روان إلى أمر الوحدة والانفصال جاء متميزا، فلكأني بالقائمين على أمره أرادوا الهمس في آذان الجميع بأن ما يربط بين الشمال والجنوب من تواثق اجتماعي وانصهار أعراق لو أطلق له القياد ومهد له الطريق لذابت سحب الجفوة وتبدل وابلها من زقوم الفرقة والشتات، إلى طل يسقي جدب الشتات فينبت ما يعجب الزراع ليغيظ دعاة الانفصال، فالمسألة أكبر من عرض اقتصادي زائل أو مصلحة سياسية مؤقتة، فهلاَّ أعملنا بصائرنا ومددنا أبصارنا وتسامينا فوق جراحاتنا وخلافاتنا، حتى يكتب لنا تفيؤ ظلال وطننا الفسيح ذي الجنات، وأنعم به من وطن، فلو تصافت النفوس لوَسِعَنا دون زحام بعيداً عن الحِمام الزؤام.