كان الجو صحوا.. أخيرا اشرقت الشمس بعد اسابيع وشهور باردة طوال.. وانا من الذين يجدون الحياة تدب في عروقهم في خلال فترة الصيف. فاجدني اكثر حيوية واكثر نشاطا.. احب الخروج من المنزل والتمشية.. ولكنها، اي فترة الصيف، بالولايات المتحدة للأسف قصيرة.. فهي لا تمتد لاكثر من ثلاثة إلى اربعة اشهر بينما نخضع بقية السنة لبرد يتراوح ما بين القاسي والقاسي (جدا) خصوصا اذا وضعنا في الاعتبار طبقات الجليد التي تغطى المكان.. وخرجت ذات امسية لطيفة مع ولديّ اتجول في المكان.. بينما كنت احمل بين يديّ صغيري حديث المولد (عمار).. كان الولدان يتمشيان بجانبي ويجريان بعيدا عني ثم يقربان.. بينما كنت انا امشي الهوينى اتأمل واتفكر.. وبعد دقائق معدودة بدأت اشعر بتعب.. ليس من التمشية تحديدا فرجلاي تستطيعان السير لمدة اطول.. ولكن ظهري بدأ يضيق بحملي.. واستعجبت.. إن عمار حديث الولادة فعمره لم يتجاوز الشهرين والنصف بعد.. اي ان وزنه لا يزال خفيفا ويكاد يعدل بالكاد وزن ريشة تحلق في السماوات وتقبل الأرض بهدوء ولطف.. وحاولت تجاهل مشاعري وواصلت المشي.. لكنني بدأت اشعر بالضيق يتحول إلى الم.. وبدأت آلام الظهر تزداد مما دعاني إلى رفع صوتي منادية ابنائي حتى نهرع بالعودة.. وفعلا، اسرعت في خطواتي متجهة صوب منزلي بالرغم من احتجاج الابناء الذين كانوا يمنون انفسهم برحلة مشي تطول فإذا هم يفاجأون بانني اطالبهم بالعودة بعد دقائق قليلة.. ولكنني لم ابالِ باحتجاجاتهم، فهم يسيرون ويجرون لا يحملون حتى مفتاح في جيبهم.. وما ان وصلت إلى المنزل واغلقت الباب خلفي حتى هرعت إلى فراش ابني اضعه فيه.. ثم مددت يديّ وبدأت احاول ان افرد ظهري وان اريحه.. وفي تلك اللحظات، حاولت ان استرجع ملامح لإمرأة ما.. إمرأة عاشت في منطقة ما من مناطق السودان المتفرقة.. ربما في جنوبه او غربه.. ربما في سنوات المجاعة قبيل سنوات طوال مضت او ربما في سنوات حرب إنتهت او اخرى لا يزال ألمها مستمرا.. إمرأة ربما إحتاجت ان تنزح من قريتها.. إضطرت إلى ترك قبيلتها وإلى الهروب باولادها إلى واحدة من مدن سودانية او ربما حتى دولة مجاورة لتحاول ان تلوذ بملجأ او بمعسكر يضمها هي واولادها.. وحاولت ان اتخيل هذه المرأة وهي تحاول ان تنقذ حياة طفلها فتضطر إلى ان تحمله المسافات الطوال وهو ما بين ظهرها وجنبها وصدرها.. وماذا لو كان للمرأة هذه اكثر من طفل؟ يا لوجعي عليك!! وفكرت، إذا كنت انا اسير في طريقي آمنة.. تحفني على اليمين والشمال اشجار خضر تزدان بهن العين.. واذا كنت احمل طفلاً صغيراً ذا وزن ضئيل، فترى، كيف كان حال تلك المرأة وهي تحاول جاهدة الوصول بابنائها الى دار الامان!! إن المعاناة الصغيرة تضيع دوما في زخم الحروب والمجاعات فترى، هل ادرك اي من الحكام عناءك؟ حاولت يا سيدتي ان اشكل صورة عن ملامحك.. لكن هذا لا يهم، فيكفيني ان اعرف بعضاً من ملامح معاناتك!!