سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الإثنين    بعد أزمة كلوب.. صلاح يصدم الأندية السعودية    وزارة الخارجية القطرية: نعرب عن قلقنا البالغ من زيادة التصعيد في محيط مدينة الفاشر    الإمارات وأوكرانيا تنجزان مفاوضات اتفاقية الشراكة الاقتصادية الشاملة    ياسر عبدالرحمن العطا: يجب مواجهة طموحات دول الشر والمرتزقة العرب في الشتات – شاهد الفيديو    حقائق كاشفة عن السلوك الإيراني!    المؤسس.. وقرار اكتشاف واستخراج الثروة المعدنية    البيان الختامي لملتقى البركل لتحالف حماية دارفور    الداخلية السودانية: سيذهب فريق مكون من المرور للنيجر لاستعادة هذه المسروقات    مدير شرطة ولاية النيل الأبيض يتفقد شرطة محلية كوستي والقسم الأوسط    تعلية خزان الرصيرص 2013م وإسقاط الإنقاذ 2019م وإخلاء وتهجير شعب الجزيرة 2024م    تدرب على فترتين..المريخ يرفع من نسق تحضيراته بمعسكر الإسماعيلية    الزمالك يسحق دريمز في عقر داره ويصعد لنهائي الكونفيدرالية    سان جرمان بطلا للدوري الفرنسي.. وعينه على الثلاثية    إيران تحظر بث مسلسل "الحشاشين" المصري    شاهد بالفيديو.. سائق "حافلة" مواصلات سوداني في مصر يطرب مواطنيه الركاب بأحد شوارع القاهرة على أنغام أغنيات (الزنق والهجيج) السودانية ومتابعون: (كدة أوفر شديد والله)    السودان..توجيه للبرهان بشأن دول الجوار    شاهد بالصورة والفيديو.. طلاب كلية الطب بجامعة مأمون حميدة في تنزانيا يتخرجون على أنغام الإنشاد الترند (براؤون يا رسول الله)    شاهد بالفيديو.. الفنانة ندى القلعة تواصل دعمها للجيش وتحمس الجنود بأغنية جديدة (أمن يا جن) وجمهورها يشيد ويتغزل: (سيدة الغناء ومطربة الوطن الأولى بدون منازع)    شاهد بالصور.. بالفستان الأحمر.. الحسناء السودانية تسابيح دياب تخطف الأضواء على مواقع التواصل بإطلالة مثيرة ومتابعون: (هندية في شكل سودانية وصبجة السرور)    تجارة المعاداة للسامية    يس علي يس يكتب: روابط الهلال.. بيضو وإنتو ساكتين..!!    جبريل إبراهيم يقود وفد السودان إلى السعودية    رئيس حزب الأمة السوداني يعلق على خطوة موسى هلال    سرقة أمتعة عضو في «الكونجرس»    بايدن منتقداً ترامب في خطاب عشاء مراسلي البيت الأبيض: «غير ناضج»    تدمير دبابة "ميركافا" الإسرائيلية بتدريب لجيش مصر.. رسالة أم تهديد؟    دبابيس ودالشريف    حسين خوجلي يكتب: البرهان والعودة إلى الخرطوم    بمشاركة طبنحة و التوزة...المريخ يستأنف تحضيراته    شاهد بالصورة.. بعد أن احتلت أغنية "وليد من الشكرية" المركز 35 ضمن أفضل 50 أغنية عربية.. بوادر خلاف بين الفنانة إيمان الشريف والشاعر أحمد كوستي بسبب تعمد الأخير تجاهل المطربة    قوة المرور السريع بقطاع دورديب بالتعاون مع أهالي المنطقة ترقع الحفرة بالطريق الرئيسي والتي تعتبر مهدداً للسلامة المرورية    السينما السودانية تسعى إلى لفت الأنظار للحرب المنسية    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    سوق العبيد الرقمية!    أمس حبيت راسك!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قاب قوسين أو أدنى: بعض من دروس وعبر..!!
نشر في الصحافة يوم 01 - 11 - 2010

في مثل هذا اليوم، وقبيل ستة أشهر تحديدا، كنت في صراع مع مرض مفاجئ، وكنت أحاول ان اهزمه قبيل ان يقضي عليَّ. كانت عقارب الساعة تقارب الثالثة من صباح يوم الجمعة 23 أبريل، 2010م، وكنت أنا غارقة في نومي. فكل ما لديّ ساعتان او ثلاثة قبيل استيقاظ «عمار» الذي كان وقتها على بعد ساعات قليلة من إكمال الإسبوع الثاني من عمره. وأقلقت نومي بضعة همهمات صادرة عن فمه، فقمت على إثرها وحملته على جنبي الأيمن، إلا انه لم تمض ثوانٍ حتى شعرت بألم حاد في جانبي الأيسر. كان الألم مفاجئا وشديدا وهو يسيطر على كتفي وعنقي وجانب ظهري الأيسر. واستعجبت، ما هذا؟ ترى، هل تحركت بصورة مفاجأة فأغضبت عضلات جانبي الأيسر؟ كان الألم يأتيني حادا مما دعاني إلى أن استبق قطرات الماء حبيبات لتخفيف الألم، وما ان مرت دقائق معدودة حتى شعرت بأن الألم قد بدأ يخف واستطعت بعدها، وأخيرا، أن أخلد إلى النوم مرة أخرى.
واستيقظت ذلك الصباح وأنا أفكر، ترى، هل كان الألم الذي شعرت به في الفجر مجرد أضغاث أحلام أم أنه كان حقيقة واقعة. وأخبرت أفراد أسرتي أنني في ليلي شعرت بطعنة في الجانب الأيسر من جسدي شديدة حتى أنني احتجت إلى ابتلاع حبيبات تخفيف الألم لكي استطيع أن أنام. ومر باقي اليوم وانا أشعر بأنني في أحسن حالاتي واقتنعت بأن ذلك الألم العجيب الذي شعرت به لم يكن سوى ألم عابر وقد مضى لحال سبيله، أو قد تكفلت به الحبيبات فطردته شر طردة.. حتى كان يوم السبت.
كان المنزل في يوم السبت يعج بالمهنئين الذين استغلوا فرصة عطلة نهاية الإسبوع لكي يأتوا للتهنئة بالمولود.. كانت غرفتي تمتلئ بصديقاتي وانا اتبادل الحديث معهن وأضحك.. وفجأة، شعرت بذات الألم ينتابني مرة أخرى وإن زاد عليه في هذه المرة، ضيق في التنفس.. وبدأت استنشق الهواء بشق وأخرجه بألم عجيب.. طعنات في تلك اللحظات تشتد في الجانب الأيسر من جسدي، تضطرني لكتم نفسي كالمخزون أفرجها فقط حينما احتاجها. وبدأت أشعر بأن نفسي تنفصل عن جسدي وأنني افترق عن الجموع التي كانت تجلس معي.. كنت أسمعها تضحك، ولكنني لا أتمكن من الضحك.. كنت أسمعها تتحدث، ولكنني لا استطيع أن أبادلها الحديث.. وإزداد الألم، فمددت يدي لأمسك بكتفي وأضغط عليه علني أستطيع أن أرجع الألم إلى مكانه وأبعده عني.. وشعرت بضيقي وتعبي صديقاتي، وربما أحسسن بأنهن قد اطلن الزيارة فقررن في تلك اللحظة ترك غرفتي حتى أرتاح.. وقامت كل واحدة من مقعدها وودعتني..
وما أن غادرت آخر صديقة الغرفة حتى شعرت بأن جسدي يهتز.. ووقفت قاصدة علبة حبيبات تخفيف الألم.. وبدأت أفتح العلبة وبدأت الحبيبات تقع من كفة يدي وصرت لا استطيع تناولها.. وشعرت والدتي، حفظها الله، بأنني صرت في حالة لا طبيعية.. فعادت وصديقتي المقربة إلى غرفتي لتجداني واقفة متسمرة، فاقدة القدرة على الحديث والحركة. وبدأت اسمعهن ينادين بخوف وهلع أن ابحثوا لها عن طبيب او اذهبوا بها إلى المستشفى.. وقد كان..!!
وخلال دقائق قليلة، كنت قد وصلت إلى بوابة طوارئ ذات المستشفى التي دخلتها قبيل أيام قليلة سعيدة وخرجت منها على رجليّ وانا احمل بيدي مولودي وانا أكثر سعادة.. ووصلتها في تلك الليلة وانا متألمة.. لا أدرك أنني أتأرجح ما بين الحياة والموت ولا اثق إن كنت أنني سأرى بوابة المستشفى أو سأخارج منها مرة أخرى.. وما أن رأتني الممرضة وأنا في حالة ضيق النفس تلك حتى بدأت تدفع بمقعدي إلى داخل قسم الطوارئ وهي تنادي بصوت عالٍ، أريد غرفة خالية، وسمعت بمن يرد عليها «غرفة رقم 3» ورأيت بعدها عددا من الأطباء والممرضين والممرضات وهم يهرعون خلفي ويهيئون الغرفة.. وفي خلال ثوانٍ قليلة كانت أنبوبة الأكسجين تجد طريقها إلى أنفي بينما تحاول الممرضة أن تدفع «بالدرب» إلى شريان يدي علها تدفع به إلى الحياة مرة أخرى.. كنت وقتها أرى ما يجري حولي ولا أستطيع أن أتحكم فيه.. ولم أجد بدا من ترك نفسي أمانة بين يديهم.
ومرت بضعة دقائق اجرى فيها الأطباء مهامهم الأولية وبدأوا ينتظرون أن تستقر حالتي.. في ذلك الوقت كنت أسمع الطبيبة تتحدث مع زوجي وتسأله عن أمري، عن ماذا كنت اشتكي.. وما الذي جرى.. ثم أخبرتنا بأنهم سيضعونني في جهاز يطلق عليه ال «سي تي إسكان» حتى يتمكنون من تصوير الرئتين علهم يصلون إلى أسباب ضيق التنفس.. وعلمت أنه لا بد من جهاز ال «سي تي إسكان» هذا لأن الأشعة العادية لا تظهر شيئا محددا.. وما أن بدأ الأوكسجين يبث الحياة مرة أخرى في جسدي حتى تم دفعي إلى الجهاز. وكان الجهاز كبيرا يحتل منتصف غرفة بأكملها.. وكان عبارة عن دائرة كبيرة يتم وضعي في فراشها ويتحكم فيها فني من خارج الغرفة.. فيتم إدخال الفراش داخل هذه الدائرة الكبيرة، وهنالك أتلقى التعليمات بصورة آلية.. «لا تتحركين، اكتمي أنفاسك.. أطلقيها..» ولم تدم مدة الاختبار طويلا وتمت إعادتي إلى الغرفة «3» مرة أخرى لأبقى في انتظار نتيجة الاختبار.
وبينما كنت انتظر، كنت في ذات الوقت أتذكر قصة «حقيقية» لأحد الأصدقاء في السودان. كان الصديق يعاني من آلام في ظهره، وأخبره الطبيب انه يحتاج إلى صورة بجهاز يطلق عليه ال «أم. آر. أي». وظل هذا الصديق يبحث عن مستشفى بها هذا الجهاز حتى يستطيع أن يذهب بالصورة إلى الطبيب حتى يتمكن من تشخيص حالته وإعطائه الأدوية التي ستساعد على علاجه، ولكن كانت القضية أكثر تعقيدا. لقد كان الصديق محتارا وهو يسأل بالمستشفيات المختلفة، كان سعر الاختبار في المستشفيات الخاصة غاليا ولا يتناسب وإمكانياته المادية، فصار يبحث عن مستشفى يمكنه من إجراء الاختبار بسعر «حنين».. وقام بالسؤال في احد المستشفيات التي تخدم اعضاء مهنته، فكان رد الممرضة ان الجهاز تمتلكه المستشفى فعلا لكنه لا يمكن اجراء الاختبار فيه.. والسبب ان الجهاز- وعلى حسب كلماتها بالتحديد- «طلع مضروب» ..!! كيف طلع مضروب!! فقالت ان الجهاز وصل المستشفى فعلا ولكنه لا يعمل.. وتخيلوا يظل هذا الجهاز في المستشفى اسما لا فعلا.. والشخص الذي ابتاعه للمستشفى لا نسمع أو نقرأ شكوى ضده ويبقى منتفعا بالربح الذي حققه من شراء وبيع جهاز «مضروب»، بينما يبقى المريض حائرا يحمل آلامه معه حيثما يذهب..!!
وبينما كانت هذه الأفكار تمر برأسي وكانت الدقائق تمر بي وأنا في قسم الطوارئ ما بين الأطباء والأكسجين واختبار ال «سي. تي. إسكان».. كانت أسرتي والأصدقاء في المنزل حيارى لا يدرون ما الذي جرى .. هل تم إسعافي؟ هل تم إنقاذي؟ ترى ما الذي جرى؟ وكانت في ذات الوقت مجموعة من الزوار تصل إلى المنزل للتهنئة، ولكن وجدوا أن أجواء المنزل لا تعبر عن الفرحة أو البهجة المتوقعة.. لقد كان هنالك صمت قاتل.. كانت الأسرة ساهمة والبال مشغول.. وعرفت بعدها أن عمار قد بدأ في البكاء.. لتبدأ على إثره الأسرة في البكاء معه.. طفل قد أكمل لتوه الأسبوعين من عمره وها هي أمه في المستشفى لا يدري أحد ما الذي جرى أو يجري لها.
كان أيضا رنين الهاتف لا يكف.. فقد بدأ القلق يعتري الجميع وصاروا يتصلون سائلين عما جرى.. كان زوجي يخبرهم بأنني على فراشي بالمستشفى، وأن أنبوبة الأكسوجين تسرى في دمي.. وبأننا في انتظار نتيجة الاختبارات ولا جديد. ونظرت إلى اوجه افراد اسرتي، زوجي، أمي، أختي، أخي وبقية أعضاء اسرتي الممتدة.. كنت أرى الفزع في أعينهم واشعر بالخوف والقلق وهو يملأ قلوبهم.. وكنت أحس بدعائهم وقلقهم وهم ينتظرون كلمة من الطبيب تخرج من فمه ولا يملكون إلا ان يدعوا الله ان يظلل عليّ برحمته. إحساس بالعجز رهيب وأنت ترى حبيبا لك في ضيقة ولا تملك له انت نفعا ولا ضرا. وتذكرت في تلك اللحظات خبرا نشر في صحيفة «الرأي العام» ربما قبل أكثر من عامين. يقول الخبر إن أسرة حملت طفلها إلى قسم الطوارئ بأحد المستشفيات لتصدم بعدم وجود الطبيب.. أين ذهب؟ ترى، اين اختفى؟ وباءت جل محاولات الممرضين للاتصال به بالفشل، فقد كان هاتفه مغلقا. وهنالك، اغلق الطفل ايضا عينيه وللأبد. اذكر ان الخبر صدمني في وقتها، فتصرف الطبيب هذا ليست له علاقة بالإمكانيات الطبية من عدمها وليست له علاقة بالتعليم او العديد من العوامل الأخرى التي نحاول ان نتفهم على اساسها تدهور الرعاية الطبية في السودان.. ولكنني احسست ولأول مرة بمشاعر الأسرة وهي تحلق حول حبيبها وتتمنى ان تقدم له شيئا.. شعرت لأول مرة بقلة حيلتهم وحياة طفلهم تتسرب من بين أيديهم وهم لا يملكون إلا ان يقفوا وينظروا رحمة ربهم لكي تظلل عليهم.. حقيقة، ربما يكون المريض تعبا لكن قلق اهله واصدقائه من حوله يتعبه أكثر.
وحضرت الممرضة لتقطع حبال افكاري المتشعبة وهي تقول لي بنبرة حانية، «لا أظن أنهم سيتركونك تعودين إلى المنزل بحالتك هذه» ولم اتفهم عمق كلماتها حتى حضر الطبيب في إثرها. وقبل أن يبدأ الطبيب الحديث اذكر انه أخذ نفسا عميقا وهو يخبرنا بأن نتيجة الاختبار قد ظهرت، ثم أعقب «لقد وجدنا أن هنالك جلطتين في جسدك، واحدة بالرئة اليسرى وأخرى بالرئة اليمنى..» واستنشق الطبيب نفسا عميقا آخر ثم قال: «لا غرو في أنك لم تكوني تستطيعين التنفس..» وأوضح أن الأربع والعشرين ساعة المقبلة ستكون حرجة.. وأصدر تعليماته بألا أتحرك من مكاني قيد أنملة، وأنه يتحتم عليّ البقاء في المستشفى لأكون تحت الرعاية الطبية المشددة.
وبقيت بالمستشفى، إلا أنني نقلت من قسم الطوارئ إلى غرفة بالطابق الثاني رقم «267»، وكانت الساعة وقتها تشير إلى الثانية صباحا. كنت في تلك اللحظات أشعر بآلام شديدة بالرغم من كل مخففات الألم القوية التي دفع بها الأطباء إلى جسدي. ووجدت اصبعي يتحرك ببطْء ليضغط على الزر الذي وضعته الممرضة بجانب فراشي لمناداتها حينما احتاجها. وما ان حضرت حتى وضعت اذنها بجانب شفتيّ، فلقد كنت وقتها أتحدث بصورة متقطعة وبلهجة خافتة هامسة، وأخبرتها أنني كثيرا متألمة.. ووقعت الممرضة في حيرة، لقد اعطتتني لتوها جرعة كبيرة من أقوى مخفف ألم مصرح به في مستشفيات الولايات المتحدة الأمريكية، ولا بد من الانتظار ثلاث ساعات كاملة حتى موعد الجرعة الجديدة.. وشعرت بالممرضة تمسح بيدها على شعري وهي تسألني إن كنت استطيع الانتظار حتى موعد الجرعة الجديدة، لكنني هززت رأسي بصورة خفيفة نافية.. وهمست الممرضة بأنها ستستشير الطبيب عما يجب أن تفعله، ثم عادت سريعا لتعطيني جرعة مضاعفة من الدواء أذن بها الطبيب.
واقتنعت في تلك اللحظة بأن الممرضة حقيقة لا مجازا، ملاك للرحمة الإنسانية. لقد كانت الممرضة هي السند الذي يعينني طوال ساعات اليوم ما عدا تلك الدقائق السريعة التي يقضيها الأطباء بحضرتي في صباح اليوم ثم يتركونني سريعا لرؤية مرضى أخر. كانت الممرضة هي التي اناديها لحظات ضيقي فتأتي هاشة «باشة»، باسمة سعيدة وتحاول ان تبذل قصارى جهدها لكي تخفف عني. لقد كانت الممرضة هي التي تقوم بكل الأعمال المطلوبة ولا تعود إلى الطبيب إلى في حالة ان تطلب منه كتابة روشته او مشورة في امر من امور المرضى. واعطتني هذه التجربة تقديرا جديدا للممرضات اتمنى ان يسري للجتمع ككل.
ولم تكن الآم جسدي الشديدة هي الآلام الوحيدة التي كنت أشعر بها، بل كانت هنالك آلام نفسية اخرى. لقد كانت صورة عمار الصغير، الطفل الرضيع الهادئ الوديع، الذي تركته بالمنزل.. تراودني صورته وهو ينام في سلام وصورتي وأنا احتضنه ليلا ونهارا لا تفارقني، فلقد قضيت الأسبوعين الماضيين وأنا أقضي معه كل دقيقة من عمره، ترى، كيف لي أن أفارقه هكذا؟ وما أن حضر الطبيب ليتابع حالتي حتى سألته إن كان من الإمكان إحضار عمار ليصحبني في غرفتي، فرفض لكون العنبر الذي اقيم فيه للحالات الحرجة فقط، وأخبرني بأنهم لا يسمحون للأطفال الذين يقل عمرهم عن الاثني عشر عاما بدخول هذا العنبر فكيف لطفل يبلغ الأسبوعين من العمر. ثم سألته أن أقيم بعنبر الولادة وهنالك المكان يسمح بوجود أطفال، لكن هذا الحل أيضا قوبل بالرفض، فحجم العناية الطبية والمتابعة التي أحتاجها لا توجد بعنبر الولادة، لذلك لا بد لي من البقاء في غرفتي.. وأعقب الطبيب «إن هدفنا الآن هو استقرار حالتك الصحية، دعينا نحقق هذا الهدف أولا ثم نتشاور في بقية الأمور»، وأسلمت وقتها أمري لربي وأنا أدعوه أن يكتب لي لقاء عمار وبقية اسرتي في وقت قريب.
ومرت الساعات الأولى وانا بالمستشفى بطيئة، آلام شديدة، جرعات كبيرة من الأدوية، غفيان وصحيان، وفود من الأطباء تتردد على غرفتي. كان هنالك الطبيب العام الذي يراجع حالتي، كانت هنالك طبيبة النساء والولادة التي وضعت على يدها عمار، ثم كان هنالك أطباء الرئة، واختصاصيي أمراض الدم، هذا بالطبع دون الممرضات ومساعداتهن. وبالرغم من سعادتي بالرعاية الطبية التي تلقيتها، إلا ان حزني ازداد على ابنة صديق مقرب للأسرة. فلقد كانت لهذا الصديق ابنة متفوقة أنهت إحدى سنوات الجامعة بدرجات عالية كعادتها وذهبت لتحتفل مع مجموعة من صديقاتها بمنزلهن. وحضر الصديق لاصطحاب ابنته من الجمع، فلاحظ ضيق نفسها، فأسرع بها إلى إحد مستشفيات الخرطوم بحري ليجد أن المستشفى لا يوجد به أوكسجين، ونصحه الطبيب هنالك بأن يسرع بابنته إلى مستشفى ببحري لأنهم يمتلكون الإكسجين. وفعلا، سارع الصديق بابنته وهو يدعو ربه أن يسلمها من كل مكروه إلى المستشفى، ليجد أن هنالك فعلا أكسجين، لكنهم في المستشفى لا يعرفون أين مفتاحه.. وفي بحثهم وسؤالهم وتقصيهم ذاك، انتقلت روح الشابة الطالبة المتفوقة إلى ربها بدون فرصة حتى في إسعافها.. بالطبع، هنالك إيمان بالقضاء والقدر. وبالطبع هنالك إيمان بأن ما يكتبه الله علينا هو ما سيحدث لنا. لكن هنالك فرق كبير ما بين أن يموت أحبابنا بين أيدينا ونحن نشعر بالتقصير الطبي، وبين أن ينتقلوا إلى رحاب الله ونحن نشعر بأننا قد قدمنا لهم كل ما يمكن تقديمه.
ومرَّ أسبوع كامل، وبدأت حالتي تتحسن وإن لم تكن قد استقرت تماما، وذلك لمشكلة واحدة وهي رفع مستوى تركيز الدم في جسدي ليكون من اثنين إلى ثلاثة أضعاف الإنسان العادي حتى تقل نسبة حدوث تجلطات مرة أخرى. وأخبرت طبيبي برغبتي في الخروج من المستشفى لكنه كان رافضا بداية فكرة مغادرة المستشفى قبيل استقرار حالتي بالكامل، وبعد كثير من مشاورات وافق الطبيب على ان اواصل العلاج بالمنزل.. وبعد اربع وعشرين ساعة، خرجت من بوابة المستشفى التي دخلتها منذ أيام وأنا أتأرجح ما بين الحياة والموت.
بعدما خرجت من المستشفى، بدأت في البحث والقراءة عن المرض الذي أصابني. ووجدت أنه في جلطات الرئة يحدث إنسداد في الشريان الرئوي أو ربما يحدث في واحد من فروعه.. وتذكرت وقتها الطبيب وهو يخبرني أنني محظوظة لأن الجلطة التي أصابتني كانت في فروع الشريان وليست فيه نفسه مما خفف من آثار الجلطة.. بل وعلمت أن حوالي 15% من حالات الموت المفاجئ تحدث نتيجة لجلطات الرئة، ووضعت لحظتها الكتاب من يدي وأنا أحمد ربي على العمر الجديد الذي أنعم به عليَّ.
وبدأت أتفكر في التجربة التي مررت بها، ووجدتني قد تعلمت منها الكثير من الدروس والعبر، فمثلا أننا نقرأ ونقول دوما أن حياة الإنسان قد تتغير في ثانية، لكننا لا نفتكر أن هذه الثانية قد تكون الفاصلة في أوضاعنا نحن وحياتنا وأعمارنا.. فنحن نظن أن هذه الثانية تغير حياة أناس أخر ولسنا نحن.. لكنني وثقت أن هذه الثانية هي عامة، تغير الكثير في حياة كل إنسان منا وليست مجرد كلمة نرددها بدون معنى ثابت لها.
ومن ضمن الدروس التي ايضا تعلمتها أن العز فعلا أهل. فقد كانت هنالك قصة قديمة سمعتها عن أحد المرضى بأحد مستشفيات الدول الغربية.. كان المريض في غرفة لم تنقطع عنها أرجل الزوار يوما.. كان السودانيون بطباعهم الرائعة يذهبون لعيادته في كل يوم ويزورونه والحاضر يكلم الغائب.. فيأتي لعيادته من لا يعرفه فقط لعيادة سوداني مريض. كان الممرضون بالمستشفى يحتارون لعدد الزوار الكبير الذي يعود غرفة السوداني، وعبروا عن شعورهم بأن هذا الشخص لا بد أنه مسؤول مهم في بلاده وشخص معروف. وكانت حيرتهم الكبرى حينما عرفوا انه شخص عادي من عامة الشعب، وان كل هذه الزيارات لا ترجى منها سوى المحبة والأجر الذي يقع على رب العالمين. وكذلك كنت أنا، كانت مشاعر أطياف المقيمين والمقيمات بولاية ميتشغان تغمرني وانا في رقدتي تلك.. كانت زياراتهم تريحني ودعواتهم تنزل عليَّ بردا وسلاما.. بعض من الزوار كنت ربما لأول مرة في حياتي أراهم.. لكنهم ما ان عرفوا بمرضي حتى هرعوا إلى عيادتي.
وفي مرة وبينما مجموعة من صديقاتي في الغرفة معي، دخلت الممرضة مسرعة ثم اغلقت باب الغرفة.. نظرت إليها مستعجبة، لقد كانت تحمل بيدها بضعة أجهزة، من ضمنها جهاز صغير لقياس حرارة الجسم.. وآخر لقياس النبض وثالث لقياس ضغط الدم.. وقالت لي «مدي لي يدك بسرعة حتى أنجز لك مهام المتابعة..» وابتمست وأنا أمد لها يدي سائلة.. «وعلام السرعة؟» فقالت انها من المفترض ان تتابع معي منذ ساعة مضت، لكنها كانت ترى افواج الزوار تتوافد على غرفتي، وكانت تنتظر أن تخرج صديقاتي من الغرفة حتى تتابعني، لكنها رأت فوجا آخر قادما فايقنت ان ارجل الزوار لن تتوقف، لذلك قررت ان تسرع قبيل ان يصلوا إلى غرفتي.. وحاولت ان اداعبها فسألتها بخبث «وكيف عرفتِ ان هذه المجموعة تقصدني، ربما حضرت لعيادة احد المرضى بالغرف الكثيرة الأخرى» ونظرت إليّ الممرضة وقالت بسخرية «صدقيني، لقد صرت اعرف تماما اشكالكم وزيكم» وما ان انتهت الممرضة من مهمتها حتى سمعنا طرقا خفيفا على الباب.. وغرقنا في الضحك.. حقيقة ان العز أهل..!!
لقد تزامنت فترة مرضي مع فترة عصيبة عانى منها الطبيب السوداني ووجدتني اتعاطف، إلى حد كبير، معه. لقد حاول الأطباء تصحيح اوضاعهم المادية وهذا حق لهم.. لقد صار الطبيب بدلا من التركيز في التشخيص وفي حالة المريض التي قباله يفكر في توفير الاحتياجات الأساسية لأسرته.. ترى، كم من طبيب يفكر في مصاريف مدارس ابنائه، بل وكم من طبيب شاب يحلم بالزواج من فتاة احلامه ويحاول توفير مسكن ومهر مناسب؟ على عكس الأطباء الذين كانوا يحيطون فراش مرضي، فهذا الطبيب قد يكون واقفا امامي يؤدي مهام وظيفته وهمه الأكبر هو تحسين صحتي.. فربما يكون هذا عمله بينما ربما تكون زوجته «تتفسح» مع ابنائه.. ربما كان اطفاله الآن في واحدة من أفضل المدارس، وربما كان عائدا لتوه من رحلة رائعة. إن بال الطبيب الأمريكي خال، إلى حد كبير، من المسؤوليات المالية، على الأقل، تجاه أسرته فصار باله هادئا لا يرنو سوى للعناية بمرضاه.. وهذه متطلبات عادلة من اطبائنا.. فكيف لنا أن ننتظر معالجتهم لنا بإخلاص وضمير بينما بالهم بالهم مشغول؟ إن الطب فعلا مهنة، كما تعملت من تجربتي الخاصة، إنسانية في المقام الأول، لكنها أيضا تعتبر مصدر دخل لكثير من الأسر.. فلمصلحة المريض لا بد من إصلاح حال الطبيب..!!
اعلم ان هنالك بضعة اسئلة لا بد انها عالقة في ذهن القارئ الآن، ما نوع هذه المستشفى، هل مستشفى عام ام خاص؟ ما هي تكلفة هذا العلاج الذي تلقيته؟ وما هي اخبار صحتي الآن؟ لنبدأ الإجابات بحسب ترتيب الأسئلة، المستشفى اسمه «بوتسفورد»، موقعه في مدينة «فارمنجتون»، وهي ذات المدينة التي اعيش فيها بولاية ميتشغان. وأنشئ المستشفى في عام 1944م وهو مستشفى عام لعلاج سكان مدينة «فارمنجتون» والمدن المجاوره لها. ونأتي للحديث عن تكلفة العلاج، نتبع هنا نظام التأمين الصحي الذي يتشارك في تكلفته كل من الموظف والجهة التي يعمل بها. وفي حالة المرض او موعد الزيارات الطبية المختلفة، يدفع المريض مبلغا بسيطا «مقارنة بتكلفة العلاج» بينما يتكفل التأمين ببقية العلاج، فعلى سبيل المثال، إذا كانت زيارة الطبيب تكلف المائة دولار يقوم المريض بدفع خمسة او عشرة دولارات ويكمل التأمين البقية. ولكن في ذات الوقت يكون هنالك حد للتكلفة التي يدفعها المريض تتحدد بحسب خطة تأمينه الصحي، فمثلا لا يمكن للمريض أن يدفع اكثر من خمسمائة دولار طوال السنة من «جيبه»، وكل تكلفة إضافية يتكفلها التأمين بنسبة ال 100%. وكنت في فترة الوضوع قد وصلت للحد الأعلى، فلذلك حينما أصابني هذا المرض المفاجئ الذي نقلت على إثره المستشفى لم يطالبني أحد بدفع «مليم» أو «قرش».
ونأتي للنقطة الأخيرة عن حالتي الصحية الحالية، الحمد لله، فلا اشعر انني مريضة او اتذكر الفترة التي مررت بها إلا حينما يأتي موعد الدواء. وكان النقاش في البداية، هل يتواصل العلاج لمدة ستة اشهر ام تسعة، وفضل الإطباء ان تمتد فترة العلاج حتى العام محاولة لضمان عدم تكرار التجربة المرة. والآن أنهي يومي بابتلاع حبتين وظيفتهما ضمان سيولة الدم، والعمل على الحد من احتمالات نسبة تجلطه. واسلمت امري لربي ورضيت بقدره، فالأمر كان من الممكن ان يكون أسوأ بكثير. والحمد لله على كل شيء.
إنني اكتب عن تجربة مرضي هذه بعد مرور ستة اشهر كاملة عليها، وال «نصيحة»، كدت استرجع وعدي للقراء بالكتابة عنها وذلك لأسباب عدة. واحدة من هذه الأسباب انني كنت على غير ثقة في الرغبة لاسترجاع تفاصيل تلك اللحظات القاسية. ولكنني فكرت، ثم قدرت، انه من الأولى لي احترام القارئ الذي غمرني بعطفه واهتمامه وما فتئ يكاتبني يسأل عن حالي، والذي وعدته باستعادة التجربة مع الدروس التي تعلمتها إما في المكاتبات الخاصة أو على اسطر اول عمود اكتبه بعد استرداد نفحات من عافيتي. وشعرت كذلك برغبة في مخاطبة المجتمع الطبي لأعلمهم بأنني أقدر دورهم في الحياة أكثر، ولأذكرهم بأنه ليس المريض فحسب، بل حياة إناس كثر، قد تكون عالقة بقرار يتخذونه. ربما كانت أيام عصيبة قليلة مررت بها، لكنها مضت كأنها سنوات، وغيرت في ذات الوقت نظرتي إلى مختلف قضايا الحياة، وللأبد.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.