بعد تنظيمها الرائع لبطولة كأس العالم ، تكون جنوب إفريقيا قد أفلحت فى إظهار قدرة الأفارقة على التنظيم والإدارة والفهم المتطور لمتطلبات مثل هذه المناسبات العالمية .. بعد أن كان الأفارقة دوماً ما يُوسمون بغير ذلك ولذا فإن فلاح جنوب إفريقيا فى إخراج بطولة كأس العالم بهذا المستوى من النجاح يُعد مفخرة للدول الإفريقية والأفارقة .. ولكن ماذا يعنى نجاح دولة مثل جنوب إفريقيا، عانت الكثير من المصاعب ودخلت فى حرب أهلية ضروس بسبب التفرقة العنصرية؟ هذا النجاح يعنى أن جنوب إفريقيا قد وعت دروس ماضيها المثخن بالجراح ولذا نالت جائزة الحرية وإستدامة السلام فى ربوعها و أنها تعيش أحلى أيام حياتها .. وفى واقع الأمر فإن جوائز إشاعة الحرية فى البلاد ومناهضة العنصرية كثيرة وقد تُوجت هذه الجوائز بشرف تنظيم أول بطولة لكأس العالم فى إفريقيا وهو أمرٌ سيكسبها الإحترام العالمى على الدوام . فلو كان هناك أى تهديد ولو ضئيلاً للغاية لما سمح العالم بإقامة هذه البطولة فيها .. فإقامة مباراة واحدة أو حتى إحتفال يحتشد فيه بضعة آلاف من الناس لمدة يوم وهناك نذر بحدوث كوارث أو أنشطة إرهابية أثناء فعالياته فإن ذلك كفيل بإلغائه نهائياً.. فكيف يكون الأمر بإحتشاد المئات من الآلاف من سكان العالم لمدة شهرٍ كامل فى بلد واحد؟ أيضاً من الجوائز التى نالتها جنوب إفريقيا إنعاش الإقتصاد القومى وإضافة قيّم إقتصادية متعددة له.. فحسب الإحصائيات الرسمية ، فإن الجمهور الذى حضر البطولة إضافة إلى الإعلاميين والمهتمين بأمر هذه الرياضة زاد عن ال مليون شخص ، فلو أنفق أى منهم ما يُعادل مبلغ ألفى دولار فإن رصيد دولة جنوب إفريقيا من العملات الصعبة سيزيد بما يربو عن المليارين دولار.. فضلاً عن ما ستضيفه هذه الوفود من تعزيز لمرفق السياحة فى البلاد والإنتعاش الذى سيشمل كافة المجالات جرَّاء إستضافة كل هذه الأعداد من الناس. لم تكن بطولة كأس العالم مجرد تظاهرة رياضية فحسب ، وإنما هى أيضاً تظاهرة سياسية وإقتصادية عالمية ، فعلى صعيد السياسة تُبدى الأوساط السياسية فى العالم إهتماماً كبيراً بهذا الحدث وقد طالع الجميع وجوهاً سياسيةً بارزة على مستوى العالم وهى تشاهد هذه الفعاليات الرياضية مع عامة الجمهور الرياضى فى المدرجات وهو أمرٌ بلا شكٍ سيُعزز من موقع جنوب أفريقيا فى المحافل السياسية الدولية والمنابر المشابهة لها . أما إقتصادياً وطبقاً لإفادات وزير المالية الجنوب أفريقى برافين جوردهان، فإن مشوار كأس العالم 2010 كان حدثاً يستحق الإستثمار مقارنة مع تكلفته ،وقد أنفقت الحكومة الوطنية 33 مليار راند في السنوات السبع السابقة تحضيراً لكأس العالم، تضمّنت بناء ملاعب جديدة، تحسين البنية التحتية للمواصلات ، والإستثمار في أفراد الأمن والتجهيزات لضمان أمن البطولة ، في المقابل، تقدّر الحكومة أن بطولة كأس العالم قد ساهمت بخلق 130 ألف فرصة عمل، وستساهم في 0.4% من الناتج القومي للبلاد هذه السنة، بعد أن ضخّت 38 مليار راند في الإقتصاد الوطني ، اليوم أصبحت جنوب أفريقيا على الخارطة، اليوم حصلنا على سمعة بلد قادر على الإيفاء بالتزاماته ، ويضيف جوردهان: «الفوائد الكاملة سنعرفها في الأشهر المقبلة ، لكن من الواضح أن الناس جاءت بأعداد كبيرة إلى البلاد وأنفقت الأموال التي ستزيد من إيرادات ضريبة القيمة المضافة وتفيد قطاعي الضيافة والتجزئة. أدّت كأس العالم أيضاً إلى خلق المزيد من المشاريع لصالح مواطني جنوب أفريقيا.» لكن الفوائد الحقيقية لكأس العالم ستظهر لسنوات مقبلة عندما تستفيد جنوب أفريقيا من بنيتها التحتية المحسّنة وصورتها العالمية. ليضيف جوردهان خلاصة هامة: « اليوم أصبحت جنوب أفريقيا على الخارطة، اليوم حصلنا على سمعة بلد قادر على الإيفاء بالتزاماته.» وهذه أيضاً شهادة أخرى إذ يقول الإقتصادي الرائد الجنوب أفريقى إيراج أبيديان أن شركته، الخدمات الإستشارية للبلدان الأفريقية، لاحظت بالفعل تزايد الإهتمام بالبلاد كوجهة استثمارية ، حيث العلة فى السابق كما يشرح أبيديان: «لقد كان هناك عقلية هائلة من القرف. كانت أفريقيا منحوسة بتشاؤم أفريقي عميق وواسع، لكن هذا الأمر استُبدل بوجهة نظر مختلفة من جنوب أفريقيا وأفريقيا ? وهي القدرة، وهذا شيء جديد.» ويشرح أبيديان كيف ستفيد كرة القدم قطاعات مختلفة من الإقتصاد في مراحل مختلفة. مما لا مراء فيه أن التحول العام الذى شهدته جنوب أفريقيا من دولة عنصرية متشددة إلى دولة حريات وتعايش سلمى هو أمر مثير للدهشة... فبقدر ماكان النظام العنصرى سافراً وفاجراً فى ممارسته للتمييز العنصري بقدر ماوصل الأمر إلى مستوى من التسامح مذهل.. ولكن هذا التحول الدراماتيكى هل جاء بغتةً أو صدفة ؟ لانعتقد ذلك.. إن هذا النجاح ترجع أسبابة إلى زعيم جنوب أفريقيا نيلسون مانديلا الذى يستحق بجدارة لقب مُخلص شعبة، فقد كان له فعل السحر فى نفوس مواطنيه، السود والبيض على حدٍ سواء، ولعَل عصاه السحريه هو ما ألزم به نفسه فى أن يكون قدوة لشعبه و يتسامح هو أولاً مع جلادية الذين سجنوه (27) عام وهو لم يهنأ بزواجه الحديث بعد ، ليخرج من السجن ثم يفوز فى الإنتخابات بالرئاسة، لكن لم يدر بخلده أن ينتقم مِن من ساموه العذاب ونكّلوا به كل هذه السنوات فى سجنه المؤبد.. بل مد لهم يده ناصعة البياض.. وترفع بكل إباءٍ وشمم عن الإقتصاص منهم.. بل قاد حملة المصالحة الوطنية بنفسه عبر البرنامج المعروف المصالحة الوطنية والحقيقة.. إذا فالأ ستقرار الإدارى والأمنى الذى أظهرته جنوب أفريقيا فى تنظيمها للمونديال كان وراؤه مانديلا صاحب القلب الكبير وقد صدق شعبه حينما لقبه ب (ماديبا) أى الرجل الكبير المحترم ، لم يسهم مانديلا فى تحرير المواطن الأسود فى جنوب أفريقيا من إسار التمييز العنصرى فقط إنما حرر الإنسان الأبيض نفسه من قيود وأوهام تفوقه الإثنى الكاذب ، فنضاله كان عملية تحرير مستمرة من قيود وسلاسل ممتدة ومتغلغلة فى حياة سكان جنوب أفريقيا بيضهم وسودهم.. ليهنأوا اليوم بثمرات الحرية وجوائزها القيمة.. وليصل صوت الحق والحرية داويان إلى كل قلاع العنصريات فى أرجاء المعمورة أن لا أمن ولا إستقرار إلا بعد إشاعة الحريات العامة والتساوى فى الحقوق والواجبات.