وختم كيري حديثه بتلخيص الموقف إجمالاً بقوله: "نحن مستعدون للعمل أكثر لإبعاد الخرطوم عن حافة الهاوية، ولكني أقول لكم في النهاية إنه في بعض الأحيان، لا تجدي النوايا الحسنة، والجهود المبذولة، إن كنت تتعامل مع أناس غير مستعدين لاتخاذ الخيارات الصحيحة، وحينها سيكون عليك التراجع وبذل جهدك في مكان مناسب". ولم تُخيِّبِ الخرطوم ظنَّ الإدارة الأمريكية، ليُثمر التعاون عن تخفيف العقوبات الأمريكية على السودان، في قرار تاريخي يؤسس لمرحلة جديدة في علاقات البلدين، غير أن القرار ضم مصفوفة من المحاذير سيتم بموجبها تقييم أداء الخرطوم بعد ستة أشهر، والنظر في رفع العقوبات بشكل نهائي أو العودة لمربع ما قبل القرار. ويؤكد نائب المتحدث باسم الخارجية الأمريكية مارك تونر، أن هناك الكثير أمام الخرطوم لإنجازه خلال الفترة القادمة، وأن التقدم المُحرز على مدى الأشهر الستة الماضية بداية لعملية طويلة الأمد لمعالجة قضايا بالغة الأهمية أبرزها إنهاء النزاعات الداخلية في السودان، وضمان المساءلة عن الجرائم التي تثير قلقاً دولياً، وتحسين سجل حقوق الإنسان، والسماح بوصول المساعدات الإنسانية دون قيود، وخلق مساحة أكبر للمشاركة السياسية، وحرية الإعلام ومنظمات المجتمع المدني. وشدد المسؤول بالخارجية الأمريكية على أن واشنطن مستعدة لإعادة فرض العقوبات إذا حدثت أية ردة. وقالت الإدارة الأمريكية في حيثيات القرار إن واشنطنوالخرطوم بدأتا العمل خلال الأشهر الستة الماضية على مصفوفة من خمسة ملفات أساسية، تتعلق بتهدئة النزاع في السودان بإيقاف الحكومة لإطلاق النار، وتوصيل المساعدات الإنسانية، والمساعدة في تعزيز الاستقرار في دولة جنوب السودان، والتعاون في مجال الحرب على الإرهاب، والمساعدة على إنهاء تهديد جيش الرب اليوغندي، وأضافت أن السودان أحرز تقدما كبيرا في الملفات السابقة، وهو ما دفع الولاياتالمتحدة لتخفيف العقوبات، ولفتت إلى أن القرار يتضمن مسارا واضحا لإلغاء دائم للعقوبات في غضون ستة أشهر إذا استمرت الخرطوم في التزاماتها بالملفات الخمسة. فيما يشير المهتم بالعلاقات السودانية الأمريكية محمد الأمين إلى أن القرار الأخير جمع بين الجزرة والعصا، ويواصل الأمين تحليله ويقول: "إن كانت الجزرة رفع العقوبات فإن العصا تتعلق بالإبقاء على اسم السودان ضمن لائحة الإرهاب والتي يتحكم فيها الكونغرس، كما أنه لم يُشِرْ لمسألة إعفاء السودان من الديون". ويزيد الأمين: "ما تزال واشنطن تمسك بخناق الخرطوم عبر ملفات السلام والتحول الديمقراطي وحقوق الإنسان". ويتوقع الأمين أن تنكفئ إدارة ترامب داخليا وألا تعرقل تنفيذ القرار، وأن الخطر الحقيقي الذي تواجه الخرطوم هو مجموعات الضغط الذي ستترصد أخطاء حكومتها. ويختم الأمين بأن إدارة أوباما سعت لتحقيق نقاط على حساب الإدارة القادمة، لا سيما أنها تتعامل بعقلية تجارية. وكان بيتر فام أحد أبرز المناصرين لترامب قد أعلن مناهضته لسياسة العقوبات. وأشار مدير مركز إفريقيا التابع لمجموعة التفكير الأمريكية (أتلانتيك كاونسيل) بيتر فام أنه لا يدافع عن الحكومة السودانية ولا يبرر ما تقوم به، مشيرا إلى أن الخارجية الأمريكية نفسها لا تحاول أن تقول إن السودان دولة راعية للإرهاب، فالحديث عن الديمقراطية وحقوق الإنسان جميعه "مهم"، ولكنه واضح أنه "لا يعني أن السودان دولة راعية للإرهاب". في مقابل ذلك يرى المحلل السياسي د.الحاج حمد أن تضارب المصالح في الأدارة الأمريكية بعد خسارة الديمقراطيين في الانتخابات الأخيرة دفعتهم لوضع عدد من العراقيل أمام الإدارة الجديدة وعلى رأسها تخفيف العقوبات على السودان، وتمرير قرار في مجلس الأمن يدين الاستيطان ويطالب بإيقاف فوري لأنشطته في الأراضي الفلسطينية بالامتناع عن التصويت. أما الخبير القانوني د.عادل عبد الغني فيقول بضرورة التعامل بحذر من القرار للوصول به لبر الأمان. ويضيف عبد الغني أن سلوك الحكومة السودانية سيكون تحت المراقبة لستة أشهر قادمة وهو ما يُحتّم الوفاء بالتزاماتها. ويرى عبد الغني أن الحديث عن مخاوف من أن تقوم إدارة ترامب بتعطيل تنفيذ القرار أمر غير منطقي، باعتبار أن العرف الامريكي جرى على ألا يحدث تغيير في القرارات الرئاسية إضافة إلى أنه تم إبلاغهم بالقرار قبل إصداره. ويضيف عبد الغني أن إدارة ترامب ستمضي في تنفيذ القرار وستراقب أداء الخرطوم. تقليص الشروط انحصرت الشروط الأمريكية لرفع العقوبات مؤخرا على إيجاد تسوية لقضية المنطقتين، تبدأ بآلية تفاوض مقبولة لدى الطرفين لوصول المساعدات الإنسانية من أجل ترسيخ الثقة وإنشاء بيئة مواتية لعملية حوار سياسي شامل يضع حلاً جذرياً للصراعات الداخلية في السودان بالإضافة لتحقيق ترتيبات لحكم أكثر شمولاً. وتقوم الفرضية الأمريكية على أن الصراع المسلح بين الحكومة والمعارضة وصل لمرحلة عدم حسم أي من الطرفين للصراع ووصولهما لحالة إنهاك كامل بسبب استمرار الحرب ولذلك تبدو الفرصة مواتية لتسوية مقبولة من قبل الطرفين، أما النقطة الثانية فهي مرتبطة بالرؤية الأمريكية التي ترى أن تحقيق الاستقرار يستوجب استمرارية المؤتمر الوطني في السلطة استناداً لخبرته في الحكم طيلة العقدين الماضيين مما يجعله عنصراً قادراً وفاعلاً على تحقيق الاستقرار مستقبلاً، ويمكن أن نلمح هذه الرؤية في تصريح المبعوث الأمريكي السابق بريسنون ليمان عندما قال: "صراحة نحن لا نرغب في الإطاحة بالنظام الحاكم في الخرطوم ولكن نرغب في إصلاحات عن طريق دستور ديمقراطي". يقول المحلل السياسي د.الحاج حمد إنه من المبكر الحكم بحدوث انفراج في العلاقات بين البلدين، ويضيف أن الإدارة الأمريكية غلبت مصالحها الأمنية على مسألة السلام، والتحول الديمقراطي وحقوق الإنسان. ويشير حمد إلى أن الحكومة السودانية لم تحرز تقدماً يذكر في المطلوبات التي وضعتها واشنطن خلال العقدين الماضيين اللذين استمرت فيهما العقوبات وهو ما يشكك في إمكانية إحراز تقدم خلال الفترة القادمة. ويشير حمد إلى أن المعارضة السودانية كانت تراهن على أمريكا لدعم موقفها إلا أن واشنطن غلبت مصالحها، ويضيف: "أعتقد أن هناك جوانب لم يكشف عنها بعد تتعلق بالتسوية السياسية بين الحكومة والمعارضة والحركات، لا سيما أن الأزمة السودانية سياسية في المقام الأول". من جانبه يقول مدير مركز دراسات المستقبل د.ربيع حسن أحمد إن القرار بُنِيَ على التطورات التي حدثت في السودان وصفت بالإيجابية والمشجعة في السلام في مناطق النزاعات وإيصال المساعدات، فضلاً عن حالة الاستقرار السياسي التي تُوِّجَتْ بالحوار الوطني وسياسة الحكومة مع معارضيها. ويلفت ربيع حسن أحمد الذي يتمتع بخبرة دبلوماسية إلى أن الأمور باتت في يد الحكومة وأن عليها ألا تفرط في سيطرتها على الأوضاع، مشيرا إلى أن قرار مجلس الوزراء الأخير بتمديد إيقاف إطلاق النار يصب في ذات الاتجاه، ويضيف: "العلاقات الخارجية تحكمها المصالح، وواشنطن لا يعاب عليها إن غلبت مصالحها". وتوقع أحمد أن تضغط الإدارة الأمريكية على المعارضين للتوصل لتسوية مع الحكومة وهو ما قد يؤدي لتليين بعض المواقف المتشددة للمعارضة. في الجانب الآخر يقول مدير برنامج دولتي السودان في معهد السلام الأمريكي جون تيمن، أنه وفي ظل اتساع موجة العنف بين الأطراف السودانية، فإن التعامل الدبلوماسي يتم باستراتيجيات قصيرة لإيقاف العنف دون أن يعطي وقتاً طويلَ الأجل لمعالجة الأسباب الجذرية لعدم الاستقرار. ويلفت تيمن في تحليل سابق إلى أن العائق الرئيسي لدفع الحكومة للإصلاح هو انقسام المعارضة بين ثلاثة فصائل (الأحزاب السياسية، الحركات المسلحة، الحركات الشبابية). وينبه تيمن إلى أن المعارضة تركز على إسقاط النظام إلا أنها لا تشير لخططها لتصحيح المسار، ويزيد تيمن "إنهم يركزون على أن الأوضاع الحالية هي الأسوأ، فلماذا لا نجرب الجديد؟"، ويقول تيمن "إن الأوضاع يمكن أن تكون تسوء أكثر"، لافتا إلى أن الحكومة نجحت في تضخيم الشكوك حول المعارضة وفي جعل نفسها حارسة للاستقرار. :::