كما أكد المبعوث الأمريكي إلى أن موقف بلاده المعارض للعمل العسكري ضد الحكومة السودانية، حيث قال: (حكومة الولاياتالمتحدة تعارض العمل العسكري ضد السودان وتراه إثارة لمزيد من الحروب والمشاكل وتراه يهدد كيان ووحدة السودان ويمكن أن ينتقل إلى الجنوب ويهدد كيانه ووحدته) (لهذا نحن حريصون على وحدة السودان الشمالي. ورأى أن عبارات(إسقاط النظام بالقوة) و (الجنوب الجديد في الشمال)) لا يساعد. وفي إشارة واضحة للبيان الذي أصدرته الحركة الثورية والتي تهدف إلى إسقاط النظام بالقوة. ورفض الولاياتالمتحدة لذلك. ويمكن أن نقرأ تصريحات ليمان هذه مع تصريحاته التي أصدرها بعد زيارته الأخيرة للخرطوم وجوبا وكان معه مستشار الرئيس للأمن القومي (دنيس ماكدونو)، حيث ذكر بأنه قد أبلغ حكومة الجنوب بضرورة احترام سيادة السودان بما في ذلك إنهاء الدعم للحركة الشعبية في الشمال ولا يتي جنوب كردفان والنيل الأزرق. يمكن أن نقرأ ذلك مع مخرجات ورشة العمل التي نظمتها الحكومة الأمريكية في واشنطن، حيث تم رفض توجهات الحركة الثورية بإسقاط النظام عن طريق القوة واعتبار وثيقة الدوحة مدخلاً لحل قضية درافور طالبين من الحركات غير الموقعة ضرورة الإنضمام إلى وثيقة الدوحة. وبخصوص رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب قال ليمان إن ذلك يعتمد على جهود الرئيس البشير لحل القضايا العالقة مع الجنوب وفي ثلاثة مناطق في الشمال: دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق، وحدد ليمان في جملة إشتراطات منها وقف الحرب في النيل الأزرق وجنوب كرفان والتعاون مع المعارضين هناك، وفتح الباب أمام المساعدات الإنسانية. وفي رواية أخرى حددت هذه الإشتراطات في الآتي: 1. إعلان السودان عدم تعاونه مع الإرهاب. 2. عدم إستخدام الطيران في جنوب كردفان والنيل الأزرق. 3. فتح الباب للمنظمات الإنسانية للعمل في تلك المناطق. 4. السماح للحركة الشعبية بإقامة حزب لها في الشمال. وهذه المطلوبات الأربعة لا تخرج عن الإشتراطات التي وضعها ليمان، وربما يكون الإختلاف فقط في الصياغة لمن صدرت عنه. ولكي نفهم ما يجري لابد من الإجابة على مجموعة من الأسئلة لكي نصل في نهاية هذا التحليل إلى مدى جدية الولاياتالمتحدة في هذه المطلوبات. ومن هذه الأسئلة: لماذا تحديد الموقف من إسقاط النظام أو تغييره يتم الإعلان عنه في وسائل الإعلام وبهذه المباشرة؟ فقد كان الإستخدام لذلك في التجارب السابقة يتم عادةً بلغة الدبلوماسية أو الوصول للمطلوبات أو الموقف تجاه النظام من خلال سلوك الولاياتالمتحدة . ما الجديد الذي جاء به ليمان؟. هل إذا أرادت الولاياتالمتحدة تطبيع علاقاتها مع السودان يمكن أن يتم ذلك بقرار رئاسي؟ بمعنى ماهي المؤسسات التي تصدر القرارات في الإدارة الأمريكية؟ وماهي الجهات والإدارات التي تؤثر على إصدار القرارات الأمريكية؟ وبعد لاإجابة على كل تلك الأسئلة نحاول أن نجيب على السؤال الأساسي كيفية التعامل مع الولاياتالمتحدة؟ بترحيب خجول استقبلت الولاياتالمتحدة حكومة الإنقاذ تحت تأثير التجميل المصري الذي قدم حكومة الإنقاذ للولايات المتحدة بأنها عمل صالح من تدبيرها، للإطاحة بالصادق المهدي غير المرغوب منها ومن الولاياتالمتحدة. لم يدم ال(make up) المصري طويلاً لتجميل وجه الإنقاذ لدى أمريكا، فقد كشفت الإنقاذ عن وجهها الحقيقي غير السار لأمريكا بإعلانها عن مبادئ برنامجها الذي يتضمن حرية القرار السياسي والإعتماد على الذات وإعلان التوجه الحضاري واستضافة المنظمات والحركات العربية والإسلامية في إطار المؤتمر الشعبي والإسلامي ومقره الخرطوم، مع إستخدام شعارات حماسيه ضد أمريكا. تحول البرنامج المعلن من الإنقاذ إلى برنامج عمل لنقل العدوى وتصدير الثورة إلى دول الجوار ثم العبور بعد ذلك إلى العالم للإعلان والإحتفاء بسقوط نظام منقستو في إثيوبيا والمساعدة باستبدال حبري بدييبي في تشاد واحتضان النضال الإريتري حتى قيام الدولة الجديدة. ثم كان الموقف من حرب الخليج رافضاً للتدخل الأمريكي في المنطقة. إزاء هذا السلوك غير المقبول من الدولة التي قدمت نفسها للعالم بأنها القوة الوحيدة والمسيطرة على العالم، يأتي هذا الخروج من دولة صغيرة منسية في العالم الثالث تحاول أن تقف على أقمص قدميها لتكون مساوية لأمريكا طولاً وعرضاً بدون مؤهلات غير لسان فصيح ينطلق دائماً عبر إذاعة أم درمان وتلفزيونها وفي الفضاء من معسكرات التدريب ولقاءات التعبئة الجماهيرية من قادة الإنقاذ من غير إستثناء. كان هذا كفيلاً بأن يجعل الفترة من العام 1990 وحتى 2001م تشهد أسوأ فترة للعلاقات بين أمريكا والسودان، قررت فيه الإدارة الأمريكية احتواء النظام في الخرطوم وإسقاطه بكافة الوسائل. في العام 1993م تم وضع السودان ضمن لائحة الدول الراعية للإرهاب. وفي العام 1994م تم تقديم دعم ليوغندا وإثيوبيا وإريتريا بقيمة عشرين مليون دولار لإسقاط النظام في الخرطوم مصرحاً بذلك أنتوني لييك مستشار الرئيس للأمن القومي. وفي العام 1996م تم إصدار القرار 1044 من مجلس الأمن بشأن العقوبات الدبلوماسية على السودان، ثم القرار 1045 و1070 من مجلس الأمن فيما يتعلق بمحاولة إغتيال حسني مبارك. وفي 1997م أصدرالرئيس الأمريكي أمراً تنفيذياً تم بموجبه تطبيق عقوبات إقتصادية على السودان، وفي أغسطس 1998م تم قصف مصنع الشفاء. وفي عام 2000م إستطاعت أمريكا أن تحرم السودان من عضوية مجلس الأمن التي كانت مستحقة للسودان. ومع كل هذه الضغوط والعمل العسكري والإقتصادي لم تفلح الإدارة الأمريكية في إسقاط النظام في الخرطوم. وعلى هذه الخلفية قام مركز الدراسات الإستراتيجية والأمريكية في واشنطن بإعداد دراسة لوضع دراسة إستراتيجية التعامل مع الخرطوم، وأوصت الورقة بأن تتجاوز الإدارة الأمريكية دور العزل وفتح حوار مباشر مع الخرطوم، والعمل على إنهاء الحرب في الجنوب. وإنشاء صيغة سودان واحد بنظامين، وضمان حقوق الإنسان، وضمان آليات تقسيم الثروة، ووضع نهاية لمسألة الإرهاب في علاقة أمريكا مع الخرطوم، والتحول الديمقراطي. وفي حالة إيفاء الخرطوم بتلك الشروط، تقوم الولاياتالمتحدة بالإعتراف بشرعية النظام السياسي في السودان، وإكتمال العلاقات مع البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ونادي باريس، والتوسع في إكتشاف وإنتاج النفط، ودعم المقدرات الإدارية للجنوب، ورفع عقوبات مجلس الأمن عن الخرطوم، ومراجعة الولاياتالمتحدة لعقوباتها على السودان. تبنت إدارة بوش مقترحات الورقة وحولتها لإستراتيجية للتعامل مع السودان. وسارت إدارة بوش على نهج الدراسة حتى تم توقيع إتفاقية نيفاشا. ثم جاء أوباماخلفاً لبوش في العام 2008م. ووضع إستراتيجية جديدة للتعامل مع السودان لم يكن من بينها إسقاط النظام. بل كان محور الإستراتيجية يُبنى على التعامل مع النظام الحالي في الخرطوم لمصلحة أمريكا وتحقيق أهدافها وأجندتها في المنطقة. إذن يمكن أن نخلص من ذلك إلى أن الإدارة الأمريكية أو أمريكا الرسمية لم يكن في أجندتها إسقاط نظام الخرطوم منذ العام 2001م حتى الآن. هذا لا ينفي أن هنالك جهات في داخل أمريكا وحتى في داخل الإدارة الأمريكية ممثلة في اللوبي الصهيوني واليمين المسيحي المتطرف وبعض منظمات المجتمع المدني وعلى رأسها (أنقذوا دارفور) و(مشروع كفى) هدفها أولاً وأخيراً هو إسقاط النظام في الخرطوم، وتعمل بكل وسائل الضغط المتاحة على الإدارة الأمريكية لتحقيق هذا الهدف. تعاقب خلال هذه الفترة العديد من المبعوثين الخاصين، وكان كل مبعوث يقدم مجموعة من الإشتراطات، توضح مطلوبات الإدارة الأمريكية لتطبيع العلاقات مع الخرطوم. كان أول مبعوث رئاسي للخرطوم هو السيناتور هاري جونسون الذي وصل إلى الخرطوم في أغسطس 1998م بعد يوم واحد من بدء تصدير النفط السوداني، وبعد أن وصلت إدارة كلنتون إلى قناعة يفشل سياستها في إسقاط النظام في الخرطوم. وكان المطلوب منه تقريب وجهات النظر بين البلدين، فبعد قطيعة إستمرت طويلاً إنتهت بضرب أمريكا لمصنع الشفاء في أغسطس 1998م، وقد فشل بسبب السياسة الأمريكية المتقلبة، وإنتهت مهمته في العام 2000م. كان تعيين السيناتور جون دانفورث في العام 2001م، وكان بمثابة الإعلان عن إنتقال الإدارة الأمريكية من سياسة المواجهة وإسقاط النظام إلى سياسة جديدة تعتمد على الحوار والتفاوض. وإستطاع دانفورث الوصول إلى إتفاق جبال النوبة، وقاد بعد ذلك جهود السلام مع الحركة الشعبية، حيث كانت الوعود الأمريكية إذا تم توقيع إتفاق السلام بين الحكومة والحركة الشعبية يتم رفع العقوبات الإقتصادية، ورفع إسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب. وأوفت الحكومة بإلتزاماتها، وتم توقيع إتفاقية السلام، ولم يتم رفع إسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، ولم يتم رفع العقوبات الإقتصادية عن السودان. وإنتهت فترة عمل دانفورث في العام 2005م. وفي سبتمبر 2006م تم تعيين اندرو ناتسيوس وكانت مهامه إقناع الحكومة السودانية بقبول القوات الدولية، ويبدو أنه قد لمس الجدية والموضوعية من الحكومة السودانية، ولكن كانت مطلوبات الولاياتالمتحدة ذات سقوف عالية لا يدعمها سند من الواقع، ويبدو أن الرجل كان صادقاً، فقدم إستقالته بعد عام واحد من توليه مهامه في العام 2007م، ودون أن يذكر أسباب لتقديم إستقالته، ولكنه صرح عشية تقديم إستقالته قائلاً: (إن التوقعات دائماً مرتفعة في الولاياتالمتحدة)، وأضاف: (إن هنالك حدوداً في الواقع لقوة الولاياتالمتحدة والأوروبيين ولقدرة الأسرة الدولية على تجميع بلد يعاني من مشاكل خطيرة جداً)، وقال: (يمكننا أن نساعد في العملية ويمكننا أن ندفع الناس لحل المشكلة، ويمكننا أن نمارس شتى أنواع الضغوط، ولكن الواقع هو أن من يستطيع إنقاذ السودان هم السودانيون أنفسهم). ولكنه مع ذلك لا يختلف عن غيره ممن سبقوه في تحريك الإشتراطات الأمريكية. فبعد تقاعده وعمله كأستاذ للدراسات الدبلوماسية والخارجية بجامعة جورج تاون في كلية وولش، أجرت معه جريدة الإندنبت اليوغندية حواراً وسألته عن عدم رفع العقوبات عن السودان في أعقاب إستقلال الجنوب؟. فأجاب، إلتقيت الرئيس البشير وسألني عن عدم رفع العقوبات عن السودان على الرغم من إلتزامنا بإستقلال الجنوب، فأجبته (لا يمكننا أن نقوم بتطبيع العلاقات إذ مازلتم تواصلون قتل شعبكم). على الرغم من علمه بأن معظم ما يقال عن السودان هو أكاذيب، وأنه يعلم أن البشير لا يقوم بقتل شعبه ولكنها الثعلبية الأمريكية. فقد سألته نفس الصحيفة عن أن هنالك تقارير حديثة من ولاية جنوب كردفان تدعي العثور على مقابر جماعية، وقبل عدة أشهر إدعي مشروع سينتينتال وجود مقابر جماعية في مدينة كادوقلي؟.. فأجاب اندرونا تسيوس: ( إنني لا أصدق تلك التقارير، إن مشروع سينتينتال الذي يتبناه جورج كلوني ومشروع كفاية الذي يتبناه برندرجاست، ما يزعمونه هو عبارة عن أكاذيب، إنهم يقومون بتوجيه إتهامات زائفة، هذا ما يفعلونه دائماً، إنهم يقوضون كل ما لدنيا ضد السودان). ثم جاء ريتشارد وليامسون عندما كان دينق ألور وزيراً للخارجية، وقد قاد جولات من الحوار مع الحكومة السودانية، كانت الإشتراطات من قبل الحكومة الأمريكية إنفاذ إتفاقية السلام، وأضيفت لها حل مشكلة دارفور، وقد بذلت الحكومة جهوداً في كل تلك الملفات التي تم بحثها في كل من باريس والخرطوم، وقد فشلت جميعها في إحداث التقدم المطلوب. إستلم إسكوت غرايشن مهمة المبعوث الأمريكي الخاص في الفترة من 21 مارس 2009م وحتى 2 فبراير 2011م، وكانت هذه المرة الإشتراطات أكثر تحديداً، ولكنها متحركة ككرة التنس، فبدأ بإضافة قيام الإنتخابات في موعدها، ثم أضيف إليها قيام الإستفتاء، ثم القبول بنتيجته، وكانت الوعود أو (الجزرة) كما هي لم تتغير برفع إسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، ورفع العقوبات الإقتصادية، وقد أوفت الحكومة بالإشتراطات جميعها ولم يتم تقديم الجزرة للحكومة السودانية. وتداخل في هذه الفترة السيناتور جون كيري رئيس لجنة العلاقات الخارجية في الكنغريس الأمريكي يحمل في هذه المرة كما في المرات السابقة شروط أمريكية تعبر عن مطلوبات المرحلة السودانية الجديدة، فقد كان الإعتراف بإستقلال الجنوب في حال تصويت الجنوبيين للإنفصال. فقد أوفت الخرطوم بذلك دون أن تفي واشنطن بجزرتها وفق ما وعدت في رسالة أوباما التي جاء يحملها جون كيري. وأخيراً جاء برليستون ليمان في أبريل 2011م، والذي بدأنا بتصريحاته هذا المقال. وقد أضيفت شروطاً جديدة منها حل المشاكل العالقة مع الجنوب، والتي تشمل الحدود، أبيي، البترول، أضيفت لها المطلوبات الأربعة التي ذكرناها في بداية هذا المقال، مع حل مشكلة دارفور، وهكذا تدور الساقية. نتيجة لهذه الوعود والمطلوبات المتحركة فقد وصل المؤتمر الوطني إلى قناعة بأن الإدارة الأمريكية غير جادة تماماً في تطبيع علاقاتها مع الخرطوم، ويعزي المؤتمر الوطني ذلك إلى التقاطعات والتداخلات داخل منظومة الحكم الأمريكية، ويذهب كمال عبيد وزير الإعلام السابق لأبعد من ذلك حيث يرى أن الإدارة الأمريكية قد فشلت تماماً في قراءة الأوضاع السودانية الداخلية، مبيناً أن الحوار مع الولاياتالمتحدة لن يؤدي إلى نتائج سياسية واضحة، واصفاً النظام السياسي الأمريكي بأنه يعاني من إشكالات بنيوية معقدة تجاه كافة القضايا السياسية والإقتصادية والأمنية العالمية، وذلك يتضح من خلال الأخطاء الجسيمة التي يرتكبها النظام الأمريكي حيال تعاطيه مع تلك القضايا العالمية. ورغم التفاؤل الذي أبداه وزير الخارجية السوداني في فبراير 2011م حينما تحدث عن التطور الإيجابي في علاقات الخرطوم مع واشنطن وشروع واشنطن في رفع إسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، إلا أنه في آخر تصريح له في الدوحة في شهر ديسمبر الجاري قال أن الإدارة الأمريكية غير جادة في علاقاتها مع السودان، ونجد أن الرئيس عمر البشير كان قد صرح في يونيو 2011م لوكالة الأنباء الصينية الرسمية (نحن على قناعة أن أمريكا لن تطبع علاقتها معنا مهما فعلنا ومهما وقعنا من إتفاقيات وإذا إنتهت كل المشكلات في السودان فسيخلقون مشكلات جديدة). ويتفق مع هذا الرأي أحمد إبراهيم الطاهر رئيس البرلمان، ومهدي إبراهيم رئيس لجنة العلاقات الخارجية بالبرلمان والسفير السابق في واشنطن. ويرى البعض أن كل الضغوط ليس الهدف من إيفاء شروطها تطبيع العلاقات مع السودان، إنما غالباً تكون تلك الضغوط مرتبطة بهدف آني تريد واشنطن تحقيقه، فعندما يتحقق ذلك الهدف لا تلتفت للإيفاء بوعودها. ويستدلون على ذلك بأن شروط التطبيع أثناء المحادثات بنيفاشا بحمل الحكومة والضغط عليها للتوقيع. ثم كانت شروط التطبيع للجلوس مع حركات دارفور لإنفاذ الإتفاق، ثم كانت شروط التطبيع لإجراء الإستفتاء، وكذلك كانت شروط التطبيع لقبول نتيجة الإستفتاء والإعتراف بالدولة الجديدة، والآن شروط التطبيع للوصول مع دولة الجنوب لإتفاق حول الحدود وأبيي والبترول، وهكذا سوف تبدل شروط التطبيع وإضافة الجديد من الشروط إليها لمساعدة دولة الجنوبالجديدة وعدم الدخول معها في حرب حتى تقف على قدميها. بينما يرى الفريق صلاح قوش في جلسة أمام البرلمان لمناقشة العلاقات الأمريكية السودانية، حيث قال في حديثه يجب تحديد العدو ثم تحديد السلاح الذي يمكن محاربته به، وقال ليس كل أعضاء الكونغرس وكل الإدارة الأمريكية ضد السودان. لكي تتعرف على العدو الذي تريد محاربته يجب فهم المجتمع الأمريكي وفهم كيف تتم إجراءات العمل السياسي وماهي العناصر المؤثرة في القضية السودانية، وكيفية الوصول إليها والدخول معها في حوارات من أجل تصحيح الفكرة. ويمضي في حديثة بتحديد العدو بدقة حيث قال: (إن أعداء السودان منظمات أجنبية تقود حملات ضد البلاد وتشوه صورتها لدى الناخب الأمريكي. ويوضح ما ذهب إليه الفريق صلاح قوش السيد ليمان المبعوث الأمريكي الحالي للسودان حيث قال: (أما بشان إلغاء العقوبات فقد اقر المبعوث الأمريكي أن الموضوع فيه تعقيدات، فبالنسبة لرفع اسم السودان قائمة الإرهاب، يستطيع الرئيس بناء على توصية من وزير الخارجية، أن يفعل ذلك)، وأضاف (لكن أغلبية العقوبات على السودان كانت قرارات أصدرها الكونغرس، ولن يرفعها غير الكونغرس). والكونغريس هو أكثر الجهات في الإدارة الأمريكية عرضة وتأثيراً باللوبيهات وتدرك وتجيد اللوبيهات التعامل مع الكونغرس وكيف تتعامل معه وكيف تستطيع أن تؤثر عليه بما تملكه هذه اللوبيهات من مقدرة ومعرفة بالتأثير على الناخب الأمريكي والذي يؤثر بصورة مباشرة على النائب الأمريكي. ومن هذا نستطيع أن نفهم لماذا دائماً يكون الكونغرس غالباً أكثر عداءاً وتطرفاً تجاه السودان. ومما سبق نستطيع ان نخلص إلى نتيجة مفادها أن الإدارة الأمريكية لا تستطيع ان تطبع علاقاتها مع السودان، سواءاً ذلك برغبتها وقصدها أو غير راغبة، وأن هذه الوعود التي تبذلها لتحقيق أهداف آنية بحسب الرأي الذي أوردناه، أو إذا كان ذلك بحسب تركيبة النظام الأمريكي وتداخل المؤسسات في صنع القرار وخاصة فيما يتعلق بالعلاقات الخارجية. هذا على وجه الإجمال. أما إذا دخلنا في تفاصيل وتصنيف القرارات فيمكن أن نصل إلى نتيجة مفادها أن الولاياتالمتحدة لا ترغب في تحسين علاقاتها مع السودان، ونستدل على ذلك بما أورده المبعوث الحالي ليمان في حديثه المشار إليه في مقدمة هذا المقال، إن رفع إسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب يستطيع الرئيس الأمريكي فعله بتوجيه من وزارة الخارجية. فإذا كان الرئيس ووزير خارجيته يستطيعان أن يفعلا ذلك فلماذا لم يقم الرئيس بذلك رغم أن السودان إستجاب لكثير من المطالب أياً منها كفيلاً بأن يكافئ السودان برفعه من قائمة الدول الراعية للإرهاب. كالتوقيع على إتفاقية نيفاشا، أو قيام الإنتخابات في موعدها، أو قيامك الإستفتاء والقبول بنتيجته، أو الإعتراف بدولة الجنوب. ولكن وزير الخارجية الأمريكي لم يوصي والرئيس لم يفعل. ولكن ربما يخفف من هذا الإستنتاج أن حرية الرئيس الأمريكي في إصدار قراراته ليست مطلقة. وذلك بأن أي قرار يصدر يكون وفق حسابات دقيقة ليست بالضرورة أن تكون متعلقة بالسودان، ولكن تأثيرها السياسي على الرئيس وحزبه وعلى الرأي العام الأمريكي مهم، ونعلم تماماً التعقيدات التي دخلت فيها قضية السودان، وأصبحت أحد الكروت التي تستخدم في كسب الرأي العام، خاصة لجماعات مقدرة مثل كتلة السود وجمعيات حقوق الإنسان وغيرها. وهنا يكمن التعقيد في المشكلة السودانية والعلاقات الأمريكية السودانية، إذ أن هناك جماعات منظمة ومحددة وهي واجهات اللوبي الصهيوني مثل منظمة مشروع كفى بقيادة برندر جاست، ومشروع سينتينتال بقيادة كلوني والتي من أهدافها الأساسية الضغط على الإدارة الأمريكية لتشديد العقوبات والقرارات، وهي تكون حجر عثرة في طريق إتجاه تحسين العلاقات مع الولاياتالمتحدة. ولكن إذا تركنا كل هذا جانباً، وأخذنا في الإعتبار أن أمريكا ما زالت القوة العظمى في العالم رغم الوهن الذي أصابها، ولا نستطيع أن نتجاهلها في تعاملنا الدولي، وذلك لأننا أصبحنا من الملفات الساخنة في السياسة الأمريكية، وأن إدارة الرئيس أوباما أفردت إجتماعاً أسبوعيا يعقد بالبيت الأبيض حول الشأن السوداني، بإعتبار أن السودان أهم دولة أفريقية. وكذلك أخذنا مع ذلك المطلوبات والإشتراطات الأمريكية، فنجد أن معظم تلك الإشتراطات لا تختلف كثيراً عن مصلحة السودان وعن ما تريدة الحكومة، مثلاً الوصول لإتفاق السلام لإيقاف الحرب هو مصلحة سودانية تتطابق مع المطلوبات الأمريكية وغيرها من المطلوبات الأمريكية هكذا، قيام الإستفتاء والقبول بنتائجه، إحترام حقوق الإنسان، الاتفاق مع دولة الجنوب حول ترسيم الحدود والبترول وأبيي، حل مشكلة دارفور، إصلاحات دستورية في النظام وغيرها من المطلوبات الأمريكية، ولا تتدخل الولاياتالمتحدة بفرض حلول جاهزة، ولكن كل ذلك يتم وفق التفاوض والاتفاق مع الجهات السودانية المعارضة المعنية، صحيح أن الولاياتالمتحدة تستخدم هذه الضغوط على الحكومة، وصحيح أنها دائماً تكون منحازة للطرف المعارض للحكومة، ولكنها لا تتدخل في النهاية لقبول مقترح معيّن وتصر عليه. وإذا أخذنا المطلوبات الأخيرة التي أوردناها في هذا المقال وحاولنا معرفة مدى اتفاقها في مع مصلحة الحكومة والسودان نجد في إنفاذها إلى حدٍّ كبير يمثل مصلحة السودان. ومما سبق يمكن أن نخلص للآتي: أن تصريحات "ليمان" ليس فيها جديد ومعلومة للمتابع، وكما أوضحنا لما أوردناه في هذا المقال فقد كان هدف إسقاط الحكومة من أهداف الحكومة الأمريكية في عهد الرئيس الأسبق "كلينتون"، ووصلت حكومة "كلينتون" في آخر عهدها إلى قناعة فشل سياستها، وتبنت مراكز الأبحاث وحكومتي "بوش" و"أوباما" ضرورة التعامل مع النظام في الخرطوم لمصلحة الولاياتالمتحدة، وبالتالي ليس في تصريحات ليمان من جديد، وليس فيها تغيير في الإستراتيجية الأمريكية تجاه السودان. الجديد في التصريحات أنه تم إعلانها وتم نشرها في كثير من الصحف، فقد كانت أهداف الولاياتالمتحدة في السابق يتم التعرف عليها من خلال سلوك الولاياتالمتحدة أو التصريحات التي غالباً ما تكون دبلوماسية، ومن خلال ذلك يتم التعرف على أهداف إستراتيجية الولاياتالمتحدة من خلال التحليل والذي غالباً ما يكون مطابقاً للواقع. فالإعلان هنا ربما يكون من عدم استعداد الولاياتالمتحدة وربما عدم قدرتها للدخول في إشكالات جديدة غير محسوبة وغير قابلة للدخول فيها، خاصةً عندما تم الإعلان عن أهداف الحركة الثورية لإسقاط النظام وذهابهم لواشنطن للتبشير بذلك، هذا مقروناً مع ما تردده أحزاب المعارضة لإسقاط النظام على غرار ثورات الربيع العربي وخاصةً النموذج الليبي. ولكن في تقديري أن أهم الأسباب في هذا الإعلان هو حرص أمريكا على مساعدة الدولة الجديدة في الجنوب على الاستقرار والقابلية للحياة والنمو والتطور؛ وأمريكا تعلم تماماً أن الحكومة السودانية قادرة على إيذاء دولة الجنوب، وكذلك تعلم تماماً أن حكومة الخرطوم هي التي تملك القدرة على مساعدة الدولة الجديدة، وتعلم كذلك أن هذه الحكومة التي قبلت بقيام الدولة الجديدة هي القادرة غير غيرها من أحزاب المعارضة على القيام بذلك، ولذلك كان الإعلان والنشر وفي ذلك رسالة لأطراف عديدة منها الحركة الثورية ومنها لأحزاب المعارضة ومنها لبعض الدول التي ربما تسعى لمساعدة الحركة الثورية وعلى رأسها حكومة الجنوب، حيث أبلغ "ليمان" ومستشار الأمن القومي الأمريكي عدم قبول الإدارة الأمريكية انتهاك سيادة السودان، وعدم قبولها بدعم حكومة الجنوب للحلو وعقار. وكذلك ربما يكون تطمين لحكومة الخرطوم. أما بالنسبة للمطلوبات والاشتراطات الجديدة فكما رأينا فهي تتوافق مع مصلحة السودان وقمنا بإنفاذ بعضها. وعلى ذلك فيمكن أن نخلص إلى أن الولاياتالمتحدة راغبة أو غير راغبة في الإيفاء بتعهداتها واشتراطاتها تجاه السودان لن تستطيع بأن تفي بالتزاماتها (الجزرة) ولكن ذلك لا يعني أن نختار أي من الطرق التي نادى بها البعض في التعامل مع الولاياتالمتحدة. ولكن في تقديري المحافظة على شعرة معاوية في التعامل مع الولاياتالمتحدة من غير (انبطاحة) مهم، وأن ما نعتقد أنه في مصلحة السودان يتم الموافقة عليه من غير إبداء ممانعة في البداية ثم القبول في نهاية المطاف. نفعل ذلك في الاستجابة للمطلوبات والاشتراطات لأنها تتوافق مع مصلحة الوطن، من غير انتظار للجزرة الأمريكية، فاليأكل الجزرة أوباما إن شاء أو فاليهدها إلى كلينتون أو إلى المرأة (......) سوزان رايس أو إن شاء أوباما أن يهدها إلى كلوني أو بندرجاست. مشكلتنا الآن أن أمريكا هي القوة العظمى الأولى في العالم وأن النظام الدولي الذي أوجدته هو لخدمة مصالحها، وأنه لابد من إيجاد سبيل للتعامل مع هذا الكابوس إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً، وأن ما قدمناه نعتقد أن فيه (مخارجة) إلى حين.