أيها المارون بين الكلمات العابرة كدسوا أوهامكم في حفرة مهجورة ، وانصرفوا وأعيدوا عقرب الوقت إلى شرعية العجل المقدس أو إلى توقيت موسيقى مسدس فلنا ما ليس يرضيكم هنا، فانصرفوا ولنا ما ليس فيكم : وطن ينزف شعباً وطن يصلح للنسيان أو للذاكرة كانت الخطيئة الأولى هي الوصول للسلطة عبر الانقلاب العسكري والبدء في تأسيس حكم شمولي قابض جار على جميع السودانيين في حرياتهم ومعاشهم وما زال يمضي حتى تحول لدولة بوليسية قابضة يمسك جهاز الأمن بمفاصلها بل وللعجب بمفاصل الحركة والحزب معاً. غير أن القلب النابض للحركة الإسلامية والذي تربى على الحرية والمبادرة والشورى وقيمها والجهر بالرأي مهما كان..كان هذا القلب النابض سباقاً للجهر بالنقد العنيف الذي بدأ برفض الانقلاب العسكري نفسه وانتقد الحركة كلاً لقيامهما بهذه الخطوة وظهر ذلك في أصوات الدكتور الطيب زين العابدين وآخرين..ثم ظهرت كتابات الدكتور عبدالوهاب الأفندي بعد العام أو العامين من الانقلاب العسكري للإسلاميين في كتابه (الثورة والإصلاح السياسي) والذي قدم فيه نقداً مراً للجهاز الخاص للحركة الإسلامية وللانقلاب العسكري والدولة الشمولية التي أسسها. ورغم أن السنوات الأولى للإنقاذ كانت مشحونة بزخم الحرب في الجنوب، إلا أن باطن الحركة كان يمور بالضجة الناقدة والمصوبة للمسار في اتجاه الانفتاح وتأسيس حكم أكثر ديمقراطية، وهو تيار تمت محاربته بقوة رغم أن التوثيق لهذه الفترة غائب كعادة أهل السودان في عدم الكتابة واعتماد النقل والشفاهة. وقد ضاعت تفاصيل هذه الفترة خصوصاً بعد المفاصلة الشهيرة مما جعل المنقولات متأثرة بالصراع بين الإسلاميين أنفسهم وشيطنة الآخر. منذ العام 1998م بدأ الانفتاح فعلياً نحو الآخر بدستور التوالي ثم السلام مع الحركة الشعبية ودستور 2005م. ويبدو أن هذه الفترة والتي شهدت انقسام الحركة وحالة الاستقرار التي عمت السودان خصوصاً في المركز ما عدا ولايات دارفور مع رغد في العيش في فترة النفط..يبدو أنها أثارت نقاشاً عميقاً تأثر بتعرض الإسلاميين أنفسهم بآلة القمع التي شيدوها بأنفسهم وأقاموها بدمائهم وعرقهم. بدأت مجالس الإسلاميين تخرج من الدعوة الخجولة للتجديد إلى نقد عنيف للتراث الإسلامي خصوصاً الذي أسس لدولات وملك ما بعد الخلافة الراشدة. وبدأت مجالسهم تناقش الدولة الحديثة والمواطنة كأساس للحقوق ويناقشون الليبرالية والعلمانية ويتحدثون عن حرية العقيدة بل وامتد نقاشهم لما يسمى بالحدود الإسلامية كحد الردة وحد السرقة وغيرها. وصاحب ذلك عملياً انفتاحاً نحو التحالف مع قوى السودان السياسية الأخرى من يسار ويمين بل وحتى مع الحركة الشعبية التي وقع معها المؤتمر الشعبي مذكرة تفاهم ثم لحق به المؤتمر الوطني ليوقع اتفاقية نيفاشا ويسلمها الجنوب كاملاً حتى الانفصال. والسودان يمضي نحو الانفصال كانت المراجعات الداخلية قد وصلت مداها وبدأت تخرج للعلن في مبادرة نهر النيل لوحدة الحركة الإسلامية في العام 2010م والتي تحدثت عن أصول جديدة للحركة الإسلامية تقوم عليها وحدتها وأهمها الحفاظ على الحريات العامة والانفتاح على الآخر في الوطن. ثم تلتها مذكرة الألف أخ في نفس العام والتي خرجت من داخل شباب المؤتمر الوطني وتحدثت عن احتكار السلطة والفساد والحاجة للانفتاح على الآخر في الوطن. وتبع ذلك مبادرة "السائحون" للإصلاح والنهضة في العام 2012م والتي جمعت كل أطياف الإسلاميين وكانت منابرها المفتوحة وفي العلن توجه نقداً مراً للحركة الإسلامية وتدعو للمراجعة الحقيقية لمسار الحركة وأصول فكرها. ورفعت المبادرة شعار الشراكة والحوار مع الآخر في الوطن من أجل الوصول إلى توافق عام بين أبناء السودان حول القضايا المصيرية. وعندما قامت ثورة سبتمبر 2013م خرجت مجموعة أخرى بقيادة الدكتور غازي صلاح الدين انتقدت الاستخدام المفرط للعنف ودعت لتوسيع المواعين من أجل حل أزمة الوطن. لم يقتصر الأمر على هذه المجموعات التي يمكن إطلاق اسم التمرد عليها بل دار نقاش عميق داخل المؤسسات الرسمية لحزب الحكومة وفي المؤتمر الشعبي، وأصبح جلياً أن دولة الشمولية يجب أن تذهب وأن يعود الحق لأهله. وتم إطلاق عملية الحوار الوطني التي تهدف إلى إحداث هبوط آمن يتسلم فيه السودانيون سلطتهم بعد الاتفاق على أسس الحكم.وقدم الشيخ حسن عبدالله الترابي ما يمكن أن نسميه خلاصة النقد والمراجعة لدولة الاستبداد والشمولية في ورقة صغيرة سميت ورقة الحريات من تسعة بنود رئيسية تؤسس لعهد المواطنة وحقوق الإنسان في السودان. وتكاد لا تختلف في شيء عدا اللغة الرفيعة للشيخ حسن الترابي عن وثيقة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. ويبدو أن دولة الاستبداد أصبحت من التشابك والعمق بحيث تم الالتفاف على الحوار ليتحول إلى محاصصة حول السلطة. وانتهى الأمر إلى بؤس شديد يقوم على دعم الرئيس البشير للاستمرار بعد العام 2020م. وصاحب ذلك تخبط داخلي وخارجي على كل الأصعدة أنتج أزمة اقتصادية خانقة مهدت الظروف لثورة ديسمبر المجيدة التي أسقطت النظام فعلاً منذ انطلاقها في يومها الأول. ظللنا طوال هذه السنوات نفخر بإرث المراجعات الأساسية التي قامت بها مجموعة شجاعة من شباب الحركة وشيوخها لم يسعهم ما وسع القطيع من نعيم السلطة ورغد عيشها. وقد أسست هذه المراجعات أول ما أسست لقداسة الحرية كحق أساس لا يقوم الحق إلا به وتنبني عليه كل الحقوق الأخرى، ولا غرو فالإنسان كان حراً حتى في قبول التكليف الإلهي بخلافة الله في الأرض. كنا نشعر بالفخر كلما نسمع للشجعان من أبناء الحركة الإسلامية يصدحون بالحق ولو على أنفسهم مؤسسين لعهد جديد من الانتقال نحو الحريات..عهد أسسوا له بدماء هشام عثمان الشواني وآلام وعذابات الأستاذ أحمد الخير حتى فاضت روحه في معتقل إخوانه الإسلاميين من أهل السلطة. ولكن يبدو أن سقوط الإنقاذ كان زلزالاً هز أركان الإسلاميين جميعاً رغم أنهم رأوا هذا السقوط رأي العين. ولكن الإنقاذ كانت سقفهم حتى وهم في داخل سجونها…فاهتز وقع حركاتهم وفقدوا بوصلة الاتجاه الأخلاقي والقيمي الذي يحكم وجودهم..وصاروا مهمومين بمآلاتهم ومستقبلهم أكثر من بوصلة الحرية التي ظلوا يبحثون عنها كبحث الغريق في شهقته الأخيرة بحثاً عن الهواء. إن سقوط الإنقاذ لم يكتمل..والحرية التي نبحث عنها لم تشرق شمسها بعد..والتآمر عليها من الكثيرين لا يحتاج إلى شرح أو تفسير..والإقليم من حولنا لن يرتاح إلا بعد أن يقوم بوأد أحلام السودانيين كشعب في الحرية والديمقراطية. بل وليس من عاصم للإسلاميين أنفسهم وحافظ لهم مما يعانيه أترابهم في الدول الأخرى إلا بحرية كاملة غير منقوصة ليس للعسكر فيها نصيب. وعلى كل الإسلاميين الذين قاموا بالنقد والمراجعات وصدحوا بالحق ونظامهم قائم..عليهم أن يعلموا أنهم في امتحان حقيقي حول ما رددوه من شعارات الحرية والطلاقة وقبول الآخر..ترى هل وقر الإيمان في صدورهم أم هم كأعراب البادية يرتدون حرصاً على بضعة دريهمات من زكاة كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. الوطن لا مآلات الإسلاميين…الحرية لا الاستبداد تحت أي مسمى ..الحرية وحدها ستحفظ الدين وتحفظ الوطن.