محمد عبد الرحمن البالغ من العمر 19 عاما من مواليد منطقة الجموعية قرية "شرفت" التي تبعد نحو 50 كيلومترا من العاصمة الخرطوم، عرف بنشاطه في ثورة ديسمبر المجيدة وتلقى تهديدا عبر التليفون من مجهولين بأنه سيفقد حياته إذا استمر في المطالبة بالتغيير. في 30 يونيو الماضي كان مشاركا في المليونية التي دعا لها إعلان الحرية والتغيير، بعدها فقدت أسرته وأصدقاؤه الاتصال به، قبل أن يتلقى والده اتصالا في الأول من يوليو يفيد بأن ابنه وجد مقتولا ضمن اثنين آخرين في خور أبوعنجة بأم درمان، وعليه آثار طلق ناري في عنقه من مسافة نصف متر، وتوجد آثار (رايش) في وجهه بالإضافة إلى آثار تعذيب على جسده، لتعلن أسرة الشهيد تمسكها بالقصاص. (السوداني) برفقة المكتب الموحد للأطباء سجلت زيارة لأسر شهداء مليونية 30 يونيو. مقتنيات الشهيد حالة محمد عبد الرحمن لا تختلف كثيرا عن حال بعض شهداء ثورة ديسمبر المجيدة، فما تزال أسرته تحتفظ ب(المايك) الذي كان يهتف به في المليونية، وعلم السودان الذي لا يفارق جسده النحيل. عُرف الشهيد بأنه دائما يكون في الصف الأول للمواكب يحفظ شعارات الثورة جيدا ينشدها ويردد خلفه الثوار. الشهيد محمد يدرس بالمستوى الثاني كلية الهندسة بجامعة أمدرمان الإسلامية، ولأنه الابن الأكبر في المنزل يحمل بين ضلوعه هموم أسرته ويجتهد في مساعدة والده الذي يعمل موجها تربويا في مصاريف المنزل ودراسته، كان يعمل في أحد المخابز ولأنه عُرف بالأمانة كان يثق فيه صاحب المخبز ويسأل عنه إذا تأخر أو غاب عن عمله. حنكمل المشوار غرفة الشهيد كانت مطلية باللون الأزرق الذي يحبه الشهيد، داخلها منضدة كبيرة موجود عليها جهاز كمبيوتر وبعض الكتب والروايات، بالإضافة إلى مذكرات الجامعة، منذ المرحلة الابتدائية، حيث عرف الشهيد بحبه للقراءة والاطلاع ويقتطع جزءا من مصروفه لشرائها. على سريره كانت توجد (مريلة) مكتوب عليها (ثوار أحرار حنكمل المشوار). وعلى الجدران عدد من الشهادات التقديرية نالها لتفوقه في دراسته، وماتزال السجادة التي صلى عليها الصبح قبل خروجه في المليونية موجودة في مكانها باتجاه القِبلة.. فيما ظل دولاب ملابسه مغلقا بإحكام. والدته أسماء البشير تذرف دموعها بغزارة نتيجة للتعذيب الذي تعرض له ابنها وكانت آثاره في جسده الطاهر، وقالت ل(السوداني): "لو عرفنا قاتله سنطالب بالقصاص"، لافتة إلى أن ابنها لم يُقتل في الموكب بل تم خطفه ومعه اثنان إلى مكان غير معلوم، وتم تعذيبه حتى الموت ومن ثم رموه في (خور) أبوعنجة. أسماء والدة الشهيد قالت إنها في يوم المليونية كانت قلقة عليه، فحاولت الاتصال به عدة مرات لكن لا يوجد رد، بعدها زادت موجة القلق، وفي المساء شاهدت نشرة الأخبار الرئيسية بتلفزيون السودان وسمعت نائب رئيس المجلس العسكري يقول إنه توجد إصابات وسط الثوار في موكب أمدرمان.. فأبلغت والده بالخبر وقالت له إن محمد سيكون أول المصابين، فرد زوجها بأن عليها أن تتفاءل خيرا، وحاولت الاتصال مرة أخرى لكن لا أحد يجيب، لتُفاجأ صباح اليوم التالي بمعرفة أنه وُجِدَ مقتولا. وأضافت: ابني كان يحلم بسودان جديد ولم تثنه التهديدات عن حلمه، مشيرة إلى أنه كان يردد دائما أنه لن يترك دماء الشهداء الذين سبقوه فهم سودانيون ماتوا من أجل القضية التي يؤمن بها. حزن عميق عبد الرحمن والد الشهيد محمد رجل خمسيني كان الحزن يسيطر عليه، يتحدث قليلا ويشرد بذهنه بعيدا يتذكر كيف أن الشهيد كان مطيعا له، يحلم بواقع أفضل ليس لأسرته فحسب، بل للسودان. عبد الرحمن قال ل(السوداني): "ابني أبلغني بأنه سيخرج في المليونية وطلبت منه ألا يذهب، إلا أنه أقنعني بضرورة الخروج، بعدها استودعته الله وخرج ولم يعد". عبد الرحمن تلقى خبر استشهاد ابنه من شخص مجهول اتصل به من هاتف ابنه، وطلب منه الحضور بالقرب من خور أبوعنجة، ولعل هذا ترك استفهاما عريضا عنده لأن الهاتف كان مغلقا ومن ثم تم فتحه. عبد الرحمن ذهب إلى هناك وكشف وجه ابنه وبعد التأكد منه وجده على السرير ومحفوظا بالثلج وحوله الثوار، بعد ذلك ذهبوا به إلى المشرحة. والد الشهيد قال: بحزن عميق ضاع فلذة كبدي ولم أجد قيادات قوى إعلان الحرية والتغيير لتواسيني، واستدرك: صحيح مشغولين بهم الوطن لكن (الفاتحة) ليست كثيرة على ابني. أما صديق الشهيد النعمان محمد الذي التقى به لأول مرة بالجامعة وكانا يخرجان معا في المواكب والتظاهرات، فقال ل(السوداني) إن الشهيد كان يتميز بخلق طيب ومعروفا لدى زملائه بالجامعة، وأضاف: فُجِعَ الجميع بخبر استشهاده، مشيرا إلى أن بعد المسافة من "شرفت" إلى الخرطوم لم يمنعه من المشاركة في المواكب بل كان يأتي قبل الموعد المحدد وأثناء الموكب يكون في الصف الأول ويهتف بالحرية والسلام والعدالة، ويؤكد سلمية الثورة. النعمان قال إنه يوم 30 يونيو اتفق أن يلتقي مع الشهيد محمد في أم درمان لكن ولكثرة الثوار لم يتقابلا أثناء الموكب وقام بالاتصال به وفتح الخط لمدة دقيقة، إلا أنه لم يسمع ماذا قال له الشهيد!! وقبل أذان العصر عاود عدة مرات لكن كان يسمع صوت الجرس ولا أحد يجيب، وأضاف: في المساء اتصلت به ووجدت هاتفه مغلقا وفي الصباح اتصلت به كان جرس الهاتف يرن ولا يوجد رد، بعدها اتصل بي شخص من هاتف الشهيد يخبرني بأن محمد وجد مقتولا في خور أبوعنجة. النعمان لم يصدق الخبر إلا أن الشخص المتصل قال له: (يا زول الموت فيهو هزار)، وبعدها تحرك إلى مكان الحدث. محمد يوسف عم الشهيد خرج معه في عدة مواكب، أكد أن دم محمد لن يضيع هدرا، وقال إن الشهيد تعرض لتعذيب ممنهج وجسده به آثار للتعذيب بالكهرباء والحريق الكربوني، وأضاف: يوجد كسر بالعنق وفمه الأسفل خالٍ تماما من الأسنان؛ مؤكدا أن الشهيد لم يكن ينتمي إلى حزب سياسي لكنه ضد الظلم والديكتاتورية، وكان يقول له إن التغيير قادم ومن حق السودانيين أن يعيشوا حياة كريمة. أم حامد حزينة حامد يوسف عمره 22 عاماً يدرس في معهد التدريب المهني ويعمل في صيانة الأجهزة الكهربائية، أي أنه جمع بين الدراسة والعمل لتوفير مصاريف المنزل، هو الابن الأكبر والوحيد وسط 4 بنات، هو أحد شهداء مليونية 30 يونيو ووجد بخور أبوعنجة. والدته غادة سعيد قالت ل(السوداني): (حامد فرحتي الأولى وبقدومه أصبحت أما)، وأضافت (كنت حاسة بأن حامد إما مضروب أو محبوس، ولم أتوقع استشهاده). حامد كان يودعها قبل أن يخرج إلى المواكب أو التظاهرات، لكن عندما خرج في المليونية 30 يونيو لم يخبرها حتى لا تقلق عليه، وعندما أشارت عقارب الساعة إلى التاسعة مساءً حاولت الاتصال به لكن هاتفه مغلق، وبدأ القلق يتسلل إليها دواخلها. خرجت من منزلها بمنطقة دار السلام بأم درمان إلى الشارع لتبحث عنه لكن لم تجده، وفي النهاية قررت أن تذهب إلى الخرطوم لأن قلبها حدثها بأنه خرج في المليونية ولم يخبرها. في 30 يونيو جلس حامد مع والدته وشرب الشاي وتبادلا الحديث في مواضيع كثيرة، إلا أن والدته طلبت منه عدم الخروج، بابتسامة لا تفارق وجهه قال لها حاضر يا أمي، وقالت والدته ل(السوداني): تركته في المنزل وذهبت لأداء واجب اجتماعي، ولا أعرف ما هو الجديد الذي جعله يخرج وربما لو كنت موجودة لأخبرني. أم حامد كانت طول ليلة 30 يونيو تحاول الاتصال بابنها على أمل أن يأتيها رد من الجانب الآخر، بعدها حاولت الاتصال بأصدقائه الذين أكدوا لها أنهم لم يلتقوه، أما والده فبعد أن صلى العشاء ظل بالمنزل انتظر قدوم ابنه الوحيد لكن لم يعد، بعد صلاة الصبح خرجت والدته وتوجهت نحو الخرطوم وسألت عنه في بعض أقسام الشرطة لأنها كانت تتوقع أن يكون محبوسا ولم تجده، أحد أفراد الشرطة الموجودين بالقسم قال لها إن بعض الثوار مصابون في مشافي بري، كفكفت دموعها وتوجهت نحو مستشفى الشرطة ببري ولم تجده، بعدها اتجهت إلى مستشفى الشعب ووجدت جثثا ولم تجد ابنها، وبينما كانت تسير في الشارع وتدعو بقلبها أن يكون ابنها قد حضر للمنزل في غيابها اتصلت لها إحدى قريباتها قائلة: (يا غادة الله يصبرك ابنك مضروب ونحن بانتظارك بالمنزل ولم تقل لها إنه استشهد). بعدها تلقت أم حامد اتصالا آخر وطُلب منها التوجه إلى مستشفى السلاح الطبي لأن ابنها هناك، كانت تبكي وتسابق الخطى لتصل، وعندما وصلت دلُوها للتوجه إلى مستشفى أم درمان لأنه تم نقله إلى هناك. قالت أم حامد إنها كانت لحظات صعبة ودعت الله أن لا تمر على الأمهات، وبعد أن تم إبلاغها باستشهاد ابنها نظرت إلى وجهه وتفقدت جسده ووجدته مصابا بطلقة واحدة في الفخذ وباقي جسده سليم. وبحسب التقرير الطبي فإن سبب الوفاة النزف المستمر. هل يُعقل؟! أم حامد كانت تبكي بحرقة وتردد: هل يُعقل أن يُقتل شباب ويتم رميه في (خور)؟ وقالت إن ابنها مبتسم دائما حتى عندما استشهد لم تفارقه الابتسامة، وأضافت: الشباب أصبحت لديهم قضية يموتون من أجلها ولا يستطيع أحد أن يمنعهم، ودعت الله أن يحفظ الشباب. (يا الله حامد ولدي الوحيد)، هكذا قال والد الشهيد يوسف حامد، وأضاف: أسأل الله أن يتقبله شهيدا.. الرجل بدا حزينا ثقيل الخطى عيناها تتدفقان حزنا، وبصوت منخفض قال ل(السوداني) إنه تلقى خبر الوفاة يوم 1 يونيو، مضيفا أنه تلقى اتصالا هاتفيا عند العاشرة صباحا، وعندما كشف عن وجه ابنه وجد حالته بشعة – بحد تعبيره – وأخذ يردد (الحمد لله الحمد لله.. الله يصبرنا على فراقه). نجاة أخت الشهيد حامد قالت إنه أبلغها بأنه سيشارك في المليونية، وعندما طلبت الذهاب معه وعدها بأنه سيصحبها، إلا أن نجاة خرجت مع والدتها لأداء واجب اجتماعي وتأخرت، واضطر حامد أن يذهب ويتركها. نجاة قال ل(السوداني) إن الشهيد حامد كان يحب والديه جدا ويخاف أن يبلغهما بشيء يمكن أن يكون مصدر قلق، وأضافت: بعد أن عُدنا إلى المنزل وفتحت جهاز التلفزيون رأيت ابن خالي ضمن المليونية وأيقنت أن أخي حامد سيكون هناك، ولم أتصور أنه لن يرجع إلى البيت مرة أخرى.