انسى تاريخ ميلادي ولا أغفل يوم انتظمت في الطابور خلف نعش الزعيم.. لأن اليوم يصادف ذكرى رحيل الزعيم. كسلا في زمن مضى، قبل اكثر من نصف قرن، وقد كان عام 1956 بالنسبة للسودانيين عام عزة وفخار، استهلوه في اليوم الاول من العام بالاستقلال، المجيد وكان بالنسبة للامة العربية عام ميلاد جديدا، فقد كان عام عبد الناصر بلا منازع، تجمهر الناس في حديقة البلدية التي تقع جنوب مبنى المجلس البلدي وشرق المسجد الكبير، بعضهم جاء متمنطقاً مسدسه وآخر معلقاً على كتفه بندقية صيد قديمة وآخر يحمل سيفاً وخنجراً وشوتالاً، كان الامر بالنسبة لي غريباً اراه لاول مره فربت على رأس والدي لينزلني من على كتفه كي يوضح لي ما يحدث امامي.. كان ذلك رداً عفوياً وتعبئة جماهيرية تلقائية، فقد اجتمع القوم ليعلنوا تضامنهم مع شعب مصر وقائده جمال عبد الناصر، ضد العدوان الثلاثي، جمعوا ما جادت به ظروفهم من مال كان وقتها شحيحاً ومبروكاً، ولايزال صوت الزعيم الراحل محمد جبارة العوض يجلجل في اذني، ولم تنمح من الذاكرة حماسة الراحل مأمون محمد الامين شنيبو المعتد بماركسيته.. وهنا طاف بخيالي سؤال: ترى كيف سيكون حال مصر بعد عبد الناصر؟!. 1970 وحرب الاستنزاف تتصاعد هذا التصعيد جعل المراحل الاعدادية من الكلية الحربية المصرية تنتقل إلى جبل الاولياء جنوبالخرطوم، واخذونا نحن للكلية الحربية في القاهرة بعد أن قويت شوكتنا لدرجة قدرتنا على الدفاع عن انفسنا ولمزيد من التأهيل في الكلية الحربية بالقاهرة. كنا نعيش اجواء الحرب الحقيقية، عندما فجر الفلسطينيون طائرة الجامبو المختطفة في مطار القاهرة بالقرب من السور الشمالي للكلية. كنا نرقب الحريق من اعلى المباني ونحن نتسقط الاخبار من الراديوهات الصغيرة (الممنوعة) التي كنا ندسها في جيوبنا بالسماعات لنعرف ما يحدث حولنا.. كنا نهيئ انفسنا للتخرج إلى ميدان المعركة، القاهرة كانت مدينة تلبس الكاكي ومظاهر الحرب تكسو ملامح المدينة الوجيعة التي تلفحت الفجيعة، بسبب الهزيمة وتدهور الجيش عبر سيناء، اكثر المشاهد الماً هو دخول القوات المهزومة إلى شوارع المدينة التي كانت تنتظر النصر، وها هي تشهد ذيول الهزيمة خلف عسكرها الذين كانوا يستعرضون في شوارعها وميادينها ايام الاعياد الوطنية واعياد الانقلابات: قلت لكم مراراً إن الطوابير التي تمر في استعراض عيد الفطر والجلاء فتهتف النساء في النوافذ انبهارا لا تصنع انتصارا ايلول/ سبتمبر البشع جعل من عاصمة التلال السبعة منصة للموت يصعد اليها الشرفاء في تعالٍ وكانت عمان مذبحة سالت فيها انهار من الدماء الفلسطينية وها هو عبد الناصر ينغرس في قلبه المثقل بالجراحات جرح جديد. منذ منتصف سبتمبر تهيأنا في الكلية لتخريج طلبة الدفعة 58 حربيين المنسوبة للشهيد بدر الدين محجوب، وبدأت الكليات العسكرية العديدة تتوافد لإجراء البروفات لهذا التخريج المشهود الذي سيحضره عبد الناصر شخصيا،ً وكان ذلك دافعاً لتحمل رهق التدريب اليومي والبروفات المتكررة صباحاً ومساءً، و(عكلتة) العميد على زيوار باشا العابس في الظاهر والذي يحمل في اعماقه مهرجاً كوميدياً، كانت تتجلى عندما يجلس خلف المايكرفون معلقاً رياضيا،ً كانا هو والمستكاوي اظرف المعلقين الرياضيين في تاريخ كرة القدم المصرية، وكان كابتن الفريق القومي ويبدو أن علاقته بالرياضة وكرة القدم جعلت منه شخصية اجتماعية محبوبة ولاسيما أن والده زيوار باشا كان رئيساً لوزراء مصر مما اتاح له أن يتهكم من الجميع، فهو ابن الباشا ونحن وجميع من يعمل في الكلية (اي كلام).. كنا نحبه ونتحاشاه.. كنا نستظرفه ونخشاه، وكان الاكثر التصاقاً بنا من قائد الكلية اللواء محمود زكي عبد اللطيف، وهو عسكري تقليدي منضبط (وزائد شوية) يتجول بجواده دخل الكلية كأنه نابليون، لا نراه كثيراً لكنه موجود في كل مكان في ارجاء الكلية الممتدة على مساحات آلاف الافدنة وتغطي كل المساحة بمطار القاهرة ومصر الجديدة، وتبدو كمدينة صغيرة مكتفية ذاتياً. بدأ الرؤساء العرب يتوافدون على القاهرة تلبية لدعوة عبد الناصر لرتق الشرخ الذي بدا عميقاً، وكان على الجميع أن يفعلوا شيئاً، اي شيء، من شأنه ايقاف نزيف الدم الفلسطيني المسفوح على ربا العاصمة الاردنية، التأم شمل القادة العرب وتغيب (ابو عمار) بسبب الحصار المضروب حوله وحول قواته في عمان، فأوفد الاجتماع الرئيس جعفر نميري في مهمة محفوفة المخاطر لاحضار ابو عمار وقد انجز ابو عاج مهمته بجدارة وعاد إلى القاهرة في معيته القائد الفلسطيني الرمز، وكانت الجلسة الافتتاحية ذات طبيعة ملتهبة تمنطق فيها ثلاثة من الرؤساء ومسدساتهم، الملك حسين.. القذافي.. عرفات.. والرؤساء الآخرون ينشدون بر الامان للأزمة والزعيم يرقب الجميع ويدير الأزمة بحنكة سياسية منحته اياها التجارب.. قلبه على وطن انتهش منه اليهود قطعة عزيزة على مصر، ومصر يعتصرها الحزن، ويثقل كاهلها مشهد جيوشها وهي تتدهور إلى غرب القنال تجرجر ذيول الهزيمة ولا اقول(النكسة). في تلك الليلة عدنا إلى ثكناتنا منهكين ك(العادة) يغالبنا الكرى والهموم، غربة وتدريب قاس وحرب استنزاف، وشك يساورنا حول وطن متأرجح بين الاستقرار والتأرجح, لأن ما حدث من شرخ في قيادته في الخرطوم يدعو للإنزعاج وما حدث في العالم العربي يدعو إلى للإحباط. (يا ساتر) والمذياع يواصل التلاوه حتي أطل علينا من خلاله صوت أنور السادات وهو ينعي أقوى الرجال وأشجع الرجال ومن غير عبد الناصر؟؟ كان أمير الكويت آخر الرؤساء الذين غادروا القاهرة، وكان في وداعهم الرئيس الراحل، وما إن أقلعت طائرته من مطار القاهره حتى تدهورت صحة الزعيم وتم نقله إلى منزله بصحبة طبيبه وتم إستدعاء فريق الأطباء المتابع لصحته المتدهورة وحالة قلبه المجهد بالمرض والوجع والغبن (وآثار النكسة) ومشاكسة الإخوة الأعداء. فجأه غابت عن سماء مصر شمسها وقمرها ونجومها، وتذكرت سؤالي وأنا طفل عن حال مصر بعد عبد الناصر!!. (اريتو حال العدو) حطت حمامة على تمثال نهضة مصر وطارت مرة أخرى مفزوعة موجوعة، تنوح فوق الكفور والنجوع والقرى تعزي الفلاحين والفقراء في غياب الحلم المنشود. وكانت مصر تعزي نفسها وتولول مثل كل الباكيات والموشحات بالسواد والدموع، و(المكتحات بالتراب والسخام والفجيعة). أما نحن فألجمتنا فجأة الموت وكنا نؤدي بروفات طابور الجنازة ونحن غير مصدقين بأنه لتشييع الزعيم الذي كنا ننتظر جولته بين الصفوف وهو (يفتش طابور التخريج )، ننتظر تلك اللحظة كي نراه عن قرب، كنا كالآخرين نفتقد الدليل وكنا نرى فيه الدرب الذي نلقي فيه ذلك الدليل. كان يوم الوداع يوما مشهودا لم نذق فيه طعم النوم، وتحركنا قبل شروق شمس ذلك اليوم الحزين إلى منطقة الزمالك حيث مجلس قيادة الثورة ،وهناك حطت طائرة مروحية كان عليها نعش الزعيم. سجي الجثمان على عربه مدفع تجرها خيول سوداء، وخلفه كان اربعون ضابطا برتبة اللواء يحملون الأوسمة والنياشين، وخلفهم مباشرة كنا نحن الطلبة الحربيين السودانيين وخلفنا الحربية والجوية والبحرية والفنية والمعاهد العسكرية العديدة، وكان قد تقرر بأن طابور التشييع يكون من الطلبة العسكريين دون تمثيل للوحدات الأخرى. وتحرك النعش من أمام مجلس قياده الثورة عبر كبري قصر النيل الذي اقتصر الحضور في جوانبه على أبناء الجالية السودانية فقط دون غيرهم، وكأن هذه الخصوصية التي منحنا لها نحن والجالية هي ثمن لتلك العلاقة الوجدانية التي كانت تربط بين عبد الناصر والشعب السوداني. كانت أصوات الملايين تئن وتبكي وهي (تشيل) ذلك (الميلودي )الحزين: (الوداع يا جمال حبيب الملايين. . ثورتك ثورة نضال عشتها طول السنين ) وكان لحنا عفويا صاغه (أندريه رايدر) الموسيقار الإغريقي المصري موزع أغاني أم كلثوم وأغنية (الود) للفنان محمد وردي. كان يوما مهيباً و(الكفيف شايل الكسيح) أتوا من كل كفر ونجع وحقل ومصنع ليودعوه وهتفوا في وجهنا (حبيبنا. .عايزينو.. حنشيلو).. وحاولوا أخذ الجثمان عنوة لو لا أن النميري أب عاج أنقذ الموقف وأتى على ظهر مدرعة وهو يشق الصفوف حتى بلغ الجثمان وأخذه من على عربة المدفع ووضعه في المدرعة وانطلق به حيث مثواه الأخير. وانتظم الطابور من جديد في خط سيره المرسوم له بين عشره ملايين مصري احتشدوا في الشوارع والبنايات، وحتى تمثال رمسيس صار تمثالا من بشر. شيعه المبدعون والساسة والقادة والنجوم، وبكته السماء والطير والنيل والأهرامات ومعابد طيبة، وكنا نداري دموعنا خلف الزي العسكري الأنيق الذي كنا نتخفى خلفه لنبدو أكثر تماسكا لدرجة أن صاحت فينا إحدى السيدات الثاكلات (إنتو ما بتعيطوش ليه ؟؟.. دا إنتو قلوبكم حجر) وما درت تلك الأم أن قلوبنا كانت تنفطر حزنا عليه، وكان علم بلاده فوقه كرداء الخلد عليه.. انطلقت واحدة وعشرون طلقة على شرف الوداع حسب مراسم الدفن العسكرية، وصاح بوق(البروجي) يعزف (نوبة صحيان) إشارة إلى الخلود والبعث من جديد بين الصديقين والشهداء. .أبا خالد.