لم يكن من السهولة بمكان الوصول الى إجاباتٍ شافيةٍ لمعضلات العدالة في مرحلة انتقال السلطة من الشمولية إلى الديمقراطية، حيث تطفو على السطح قضايا جوهرية أخلاقياً وقانونياً وسياسياً، وغالباً ما تتنازع الرغبة الأخلاقية بمُعاقبة المُذنب مع مُعطيات الواقع السِّياسي الذي يفرض إرساء دعائم الوحدة الوطنية من جهة، مع المُتطلبات القَانونية للدولة الدِّيمقراطية من جهةٍ ثانيةٍ، ولذلك يبقى الظفر بالمعركة على السلطة أيسر بكثيرٍ من إقامة العدل.. من هذا المُنطلق يجب على النظام الجديد في السودان البحث عن صيغة يتلاءم بها مع مجموع الناس الذين سَحقهم النظام السّابق على مدى ثلاثين عاماً، وليس أفضل صيغة من تلك التي تُسمى العدالة الانتقالية وهي تعني من بين معانيها الكثيرة التركيز على مزيج من الإنصاف المَحدود بضوابط قانونيّة والاعتراف الرسمي بالحقيقة، حيث تبشِّر سِياسات الحَق والعدل بأن تكون بديلاً لنقيضين لا يجتمعان أبداً، العِقاب العَنيف وسلوان الماضي، فتقدم مقاربة العدالة الانتقالية شيئاً من العدالة المُتوازنة التي تقوم مقام العدالة الوحشية أو الغياب التام للعدل. في مُختلف الأحداث التي مرت على العالم من جنوب أفريقيا الى أوروبا الشرقية، لا تَزال الأنظمة تبحث عن حُلُولٍ لمُشكلات إقامة العَدل أثناء عمليات التّحوُّل إلى الديمقراطية، وفي هذا السياق يبرز نموذج العدالة الانتقالية كإحدى آليات تسوية الغُبن التي وقعت في الماضي. توضح لنا عقيدة الديمقراطية خمسة أدوات رئيسية لمناقشة القضايا المُتعلِّقة بالعدالة الانتقالية وهي: 1- العقد الاجتماعي: وهو اتّفاق الأفراد داخل الدولة للتخلي عن الحالة الطبيعية الفطرية. (تقابل هنا الحالة التي كان عليها المجتمع في السودان قبل الثورة) والدخول إلى مُجتمع ترسى فيه القوانين التي تحكمهم ويتجلّى الإسهام الرئيسي للعقد الاجتماعي في الديمقراطية بتقديم نموذجٍ للتغيير السياسي السلمي، إذ يَرسم هذا العقد خاتمة للحالة التي كان عليها المُجتمع قبل الثورة ويبدأ في استشراف عهدٍ جديدٍ بناءً على ذلك التّوافُق بين مكوِّناته المُختلفة وهو أمرٌ تقوم به المُؤسّسات الاجتماعية في النظام الجديد عبر التبشير بإشراقات المُستقبل الجديد ونبذ حالات الماضي البغيض، فمتى ما تواثَقت مُكوِّنات المُجتمع المُختلفة على نبذ الماضي واستشراف المُستقبل عبر إرساء القوانين المُختلفة هبت الأمة وسارت إلى الأمام، ومتى ما تقوقعت داخل مواضعات الماضي وغطت عينيها عن آفاق المستقبل تراجعت إلى الخلف.. إذن فلا بُد من قيام ذلك التّواثُق بين مُكوِّنات المُجتمع بعيداً عن التّجاذُبات السِّياسيَّة والاختلافات المذهبية، لأن ذلك التّواثُق مركوزٌ على مُجَرّد التعايُش داخل الدولة بالتزام المُجتمع بالتشريعات والقوانين التي تنظم مُختلف الأحوال الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وغيرها. 2- سيادة حُكم القانون: تفرض سيادة القانون، كثيراً من القيود على آليات الانتقال من الشمولية إلى الديمقراطية، فسيادة القانون تَسمح للدولة التصالُح مع مَاضيها وذلك بالالتزام بالإجراءات القانونية في مُحاسبة النظام القديم، والمُساواة في المُعاملة معه، وهو ما يُؤدي إلى استبعاد الجزاء الدامي الذي ظَهَرَ في كثيرٍ من حقب التاريخ، ولهذا فإنّ بعض الديمقراطيات النّاشئة تلمّست استراتيجية للتّصالُح مع المَاضي وذلك باللجوء إلى العدالة التّرميمية للضحايا السّابقين عِوَضاً للسعي لمُعاقبة الجناة، كإعادة تأهيل الضحايا وتعويضهم مادياً عمّا قاسوه، ومع ذلك فإنّ المُحاكمات الجنائية تُعتبر بديلاً أفضل عن الجزاء العنيف بالرغم مِمّا يُحيط به من صُعُوبات محورها الالتزام بسيادة حكم القانون، ولا يجب في كُل الأحوال أن تنحط المُحاكمات في دولةٍ ديمقرطيةٍ إلى مُستوى الانتقام السياسي، ولكن عدداً محدوداً من المحاكمات السياسية يُمكن أن يحقق أغراضاً سياسية وأخلاقية بالغة الأثر، منها تعزيز شرعية النظام وتلبية مَطالب الضحايا بإقامة العدالة الجزائية. 3- استخدام القانون. تَمّ تَصنيف مُقاربات العَدَالة الانتقاليّة على التّفريق بين استخدام القانون الجنائي أو القَانون المدني في تطبيقهما على الضحية والجلاد فيما يتعلّق بالجرائم التي حَدَثت في النظام السّابق. وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ هذه المُقاربات للعدالة الانتقالية تَحمل بين ثناياها تشكيلةً واسعةً من الأدوات القانونية المُناسبة لتسوية حالات الجُور التي وقعت في الماضي، ولكن هذه الصيغة مُقيّدة بضمانات إجرائية لسيادة حكم القانون من جهةٍ، وضرورة التّوصُّل إلى تسويةٍ سياسيةٍ في النظام الديمقراطي الصاعد من جهة ثانيةٍ. 4- المصارحة والشفافية. لا بُدّ من التّحقيق في جرائم النظام السابق بواسطة لجان نيابية أو مجموعات تقصي حقائق، وهذا التحقيق ليس لإغراض المُحاكمة والعِقاب وإنّما من أجل الوقوف على حقيقة ما جرى في النّظام السّابق، والتّوافُق على وقائع التاريخ المُشترك يُعد شرطاً جوهرياً للحرية، وذلك لأنّ الأنظمة الشمولية تسعى جاهدةً لإغلاق الحريات بكل أشكالها وتحرم تلك الأجهزة الحوار المفتوح حول المعلومات المُتعلِّقة بالفساد وانتهاك حُقُوق الإنسان على نطاقٍ واسعٍ ولا سبيل لإثبات حقيقة ذلك الظلم إلا بمُناقشتها علناً بين أبناء الشعب. عليه، فإنّ الكشف عن جرائم النظام السّابق يؤدي إلى شفافية التّعامُل معها بقدر حجمها, كما تؤدي من ناحية أُخرى الى مصارحة الشعب بحقيقة تلك الجرائم، لأنّ بناء الدولة يجب أن يقوم على تعرية الحَقائق كَامِلةً ليعلم كل أفراد الشّعب الحجم الحقيقي لمجموع الأخطاء التي كانت تخفي منه وتأثير ذلك المجموع على سير الحياة في وطنهم. 5- العدل والمسؤولية السِّياسيَّة. تمتاز الديمقراطية بسُمعةٍ حَسنةٍ لإقامة دولة العدل، فالديمقراطية تحمي الأفراد من تعديات سُلطات الدولة وتضمن سيادة حُكم القانون والمُساواة بين أفراد الدولة. وقد يجد بعض المسؤولين عن جرائم وقعت في الماضي بعض الثغرات بالنظام القضائي في عهد الديمقراطية، فسيادة حكم القانون ربما تفرض الكثير من القُيُود على عملية المحاكم – كما أشرنا من قبل – وربما تُساعد بعض القوانين الوطنيّة في براءة بعض المسؤولين خَاصّةً في جرائم حُقُوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني، ولكن يرى بعض الفقهاء أن القانون الدولي ربما يقدم بعض الحلول لمثل تلك المُشكلات، فمن المُمكن – مثلاً – أن تعتمد الدولة في طور الانتقال السِّياسي على المبادئ الدولية المُتعلِّقة ببعض انتهاكات حُقُوق الإنسان، حيث تمتاز القواعد القانونية الدولية بالثبات مهما تَحَوّلت وتبدّلت القوانين الوطنية في الدولة، وبالرغم من مجال القانون هذا لا يزال قيد التطوير، إلا أنّه قد يصبح أداةً مُهمّةً تُساعد الأنظمة على الاضطلاع بالمسؤولية السِّياسيَّة تجاه أفعال أسلافها. ثَمة تَحديات كبيرة تُواجه الدول التي تُريد الانتقال من الشمولية إلى الديمقراطية عند تعامُلها مع جرائم النظام السّابق، فانتهاكات النظام السّابق لحُقُوق الإنسان واستعماله المُفرط للقوة وقمعه الصارخ للحرية بأشكالها كافّة، تستحق شجباً شديد اللهجة وذلك عبر التظاهرات الغَاضبة، ومع ذلك فإنّ تلك الدول تتقيّد بسيادة حكم القانون، وتدعو أطياف الشعب كافّة للمُشاركة وكَفالة حق المُساواة، وقد يتفجّر طلب إرساء العدالة من الشعب بالتزامُن مع فَرض القُيُود القَانونية على المُحاكمة فتتولّد بذلك مُشكلات العدالة. قامت بعض الأنظمة مثل جنوب أفريقيا بابتداع سياسات من شأنها إظهار الحق وإقامة العدل وهي مزيجٌ من الإنصاف المُحدّد بضوابط قانونية والاعتراف الرسمي بالحقيقة وذلك عبر الوسائل القانونية التالية: أ- بالنسبة للجاني محاكمات القانون الجنائي تُعد المُحاكمات الجنائية لمن قام باستغلال السلطة، أو ارتكب انتهاكات واسعة لحقوق الإنسان، أو قام بتبديد المال العام، أو الإفساد المالي من أبرز الأمثلة على الإنصاف القانوني، لكن دائماً ما تكتنف مثل هذه المُحاكمات الكثير من المُشكلات القانونية والسياسية، حيث تبرز العديد من الأسئلة، مثل مَن المسؤول الحقيقي في الهرم السِّياسي أو العَسكري؟ هل يَحتفظ الجُناة بسلطة تُؤثِّر على الانتقال إلى الديمقراطية، هل قام الجُناة بإعدام أو إخفاء المُستندات التي تُؤيِّد ما قاموا به من جرائم، هل آليات القضاء الموجود لها القدرة على مُحاكمة أولئك الجُناة؟ إلى جانب ذلك فإنه غالباً ما يتمتّع الجُناة بأنماطٍ جديدةٍ من الحماية المدنية تضمن لهم الحق في مُحاكمةٍ عادلةٍ، كما يُواجه الادّعاء العام صُعُوبَات في جمع أدلة عَلَى جَرائم كَانت تتم في الخَفَاء وبحماية الأجهزة العدليّة التي كانت قائمة. ب- التّطهير القانون المدني للجاني يُعتبر التطهير الذي يعني تسريح الجاني أو تجريده من بعض حقوقه السِّياسيَّة ضمن أنماط الجزاء الذي يؤدي إلى العدالة والإنصاف في بعض وجوهه، وقد درجت العديد من الأنظمة في حالة الانتقال إلى الديمقراطية على القيام بعمليات التطهير تلك، ولكنها يجب أن تتم وفق أُسسٍ عدليةٍ وليست سياسية، أيّ أنها يجب أن تتم وفق القانون أو المُحاكمات المدنية حتى لا تجنح نحو الانتقام الذاتي أو تتم وفق الأهواء الشخصية أو حتى السِّياسيَّة، ولنا في تجربة التطهير التي صاحبت قيام ثورة مايو وتجربة التمكين التي صاحبت ثورة الإنقاذ خير مُعين لتجنُّب أخطاء التطهير التي ما زالت تُعاني منه الدولة حتى الآن. ج- التعويض المادي – القانون المدني الضحية التعويض المادي هو الوسيلة المألوفة التي تتبعها الجماعة السياسية للتكفير عن خطاياها وتحمُّل مسؤوليتها عن الآثام التي حدثت في الماضي، وتبدو صعوبة هذا الإجراء في إيجاد آلية لتحديد الفئات التي تستحق التعويض فعلاً ولكنه إجراء مُتّبعٌ ضمن آليات العدالة الانتقالية للوصول الى مبادئ العدل والإنصاف. د- إعادة التأهيل – القانون الجنائي الضحية لا شكّ أنّ الكثير من الناس قد تعرّضوا لمحاكمات جائرة وضعوا بمُوجبها في السجون، وأنّ الكثير من الناس قد تمّ اعتقالهم بواسطة الأجهزة الأمنية ومَكَثوا أزماناً طويلة في مُعتقلات النظام، ولا شك أنّ أكثر أولئك الناس لم يكن لهم من ذنب، إلا أنّهم قاموا بالتعبير عن آرائهم، كما أنّ كثيراً من الناس أيضاً قد حرموا من مناصبهم ووظائفهم وعانوا من الظُلم والقَهر، وعليه فإنّه لا بُدّ من تمكين أولئك الناس من المطالبة بحقوقهم المدنية والسياسية كاملة وبالرغم من أن قيمة إعادة التأهيل هي قيمة رمزية في المقام الأول، إلا أنه يوفر للضحايا سجلاً عدلياً نظيفاً يضمن استعادة الحقوق كاملة. 2- المصارحة (البوح بالحقيقة) يجب أن يتزامن الإنصاف القانوني بجميع عناصره السابقة بما يسمى بسياسة المصارحة وذلك بأن تقوم أجهزة النظام الجديد بفضح كل جرائم ومُمارسات النظام السابق، وتتّخذ هذه السياسة أشكالاً شتى، منها المُساءلة النيابية ولجان تقصي الحقائق وفتح ملفات الأمن والاستخبارات وغيرها، ويكون الهدف من ذلك هو اتّخاذ خطوات جادّة لمُساعدة العامة لمعرفة حقيقة جرائم النظام السابق وإزاحة التكتم والسرية، حيث يفسح بذلك المجال أمام مقدار أكبر من المصارحة والشفافية ليكون عِظَةً في مستقبل الأيام لمن يمسكون بزمام الأمور في الدولة. لا بُدّ من الإشارة بعد هذا السرد أن المقاربة الديمقراطية لقضية العدالة الانتقالية تضفي مسحة من العدالة والشرعية على الأنظمة الصاعدة، كما تُوفِّر سياسة المصارحة فرصة ثمينة لاستخلاص العبر من الماضي، ويبقى في عالم الغيب ما إذا كان النظام الجديد الصاعد نحو الديمقراطية ستفيد منها أم لا. مقاربة العدالة الانتقالية في السودان للانتقال إلى الديمقراطية أمر مُمكن التطبيق على مستوياته الاجتماعية والسياسية والقانونية وهي بديل فعلي لنزعات الانتقام الوحشي من رمز النظام السابق، كما أنها بديل موضوعي لمسارات الإقصاء العشوائي لكل من عمل في ظل ذلك النظام، فنزعات الانتقام الوحشي ربما تهدر كثيراً من الحقوق القانونية التي يجب أن يَتَمَتّع بها الإنسان داخل دولته ومسارات الإقصاء العشوائي تؤدي لا محالة إلى إهدار الطاقات وتشتيت الجهود للسير نحو التّقدُّم. وعلى كلٍّ، فإنّ مواضعات الديمقراطية التي نادت بها الثورة من خلال شعاراتها المرفوعة تُوجب على الناس الالتفات نحو مُقاربات العدالة الانتقالية، لأنّ التّحوُّل من الشمولية الى الديمقراطية عملٌ شاق يحتاج إلى وقت وصبر، وكم عانت الدول التي تتمتّع بالديمقراطية المُستدامة على مدى عُهُود طويلةٍ من مشقة ذلك الانتقال، ولكن صبرها على تلك المشاق هو ما أوصلها اليوم إلى تلك الدرجة.