دهشةٌ ارتسمت على وجوه مرافقي (السوداني)، بدءً بمدير مركز طيبة برس الكاتب الصحفي محمد لطيف مروراً بالناشط والخبير الإعلامي فيصل محمد صالح، وصولاً للذهول الذي خيَّم على وجه الزميل مدير تحرير الصحافة محمد حامد جمعة، من فرط التغييرات التي شهدتها أحدث دول العالم.. جوبا التي خرجت ذات جرحٍ من السودان الأب أو الأم كيفما اتفق، وقفت شامخة أمام عوامل التعرية الحربية؛ معلنة بإرادة أبنائها: لا للحرب نعم لإعادة بناء ما دمَّرته الحرب.. (آخر مرة جئتُ فيها إلى جوبا كانت الفنادق عبارة عن "خيام").. بهذه العبارة علَّق فيصل وهو يبتلع دهشته غير مبالٍ بتعليقات الجميع مستغرقاً بكلياته في عقد مقارنات عصية بين جوبا ما قبل الانفصال وجوبا ما بعدها قبل أن يقفز سؤال عفويٌ أفحم الجميع: (دي بلد فيها حرب؟). بلا جيش: (السوداني)، بحكم متابعتها اللصيقة لملف أزمة جنوب السودان كانت الأسرع في تلقف ملاحظة غياب ملامح التواجد العسكري للجيش الشعبي داخل العاصمة رغم أن التوقعات كانت العكس.. بيْد الملاحظة تم تبريرها لاحقاً عبر مشاهدة الانتشار الشرطي باعتبار أن وزارة الداخلية هي المعنية بحفظ واستتباب الأمن.. الشوارع تحتشد بالمواطنين كلٌّ في طريقه وعلى هواه؛ التصرفات عفوية والأصوات التي تعلو هنا وهناك تخلو من الشحن الزائد؛ والجميع يبتسم مشجعاً الجميع بعبارة صامتة فحواها: (يوم بكرة أكيد جميل). تحدي وظروف: الحيرة من فرط هدوء عاصمة الجنوب جعل النغمة العفوية في همهمات الجميع: (جوبا مالك عليا).. هدوء تواطأ مع المطر الخفيف الذي استقبل بني الخرطوم على أرضٍ كم عشقوها وعشقتهم وما تزال.. مطر الاستقبال استشعرته (السوداني)، دموع لوم وعتاب قبل أن يكون فرح استقبال.. عتابٌ يحمل في مضامينه: (لماذا تخلَّيتم عني في هذه الظروف الصعبة؟) لتحكي الوقائع مدى عمق الوجع.. ففي طلمبات الوقود اكتظت العربات من كل شكل ولون وماركة؛ صفوف أعادت لذاكرة (السوداني) معاناة حقبة أواخر الثمانينيات في الخرطوم، والسيارات تلتف في صفوف بحسب التفاف الشوارع.. وطبقاً لمعلومات (السوداني) فإن سبب الاكتظاظ هو قرار الخرطوم بمصادرة شحنة، في وقتٍ سارعت فيه مستويات سيادية بجوبا لمخاطبة القيادة السياسية بالخرطوم لتدارك الموقف لتأتي الإجابة من عاصمة المليون مربع سابقاً: (معليش ظروفنا أصعب). الاستياء من موقف السودان لم تخفيه ابتسامات الإقرار بحق الخرطوم المتبوعة ضمنياً ب( ما كان العشم).. وفي الوقت الذي خلقت فيه الخرطوم فراغاً في جوبا على مستوى المواقف تارةً، والأسواق تارةً أخرى؛ كانت أطراف أخرى بدهاءٍ لا يخلو من خبث تلهث لملء الفراغ؛ فالفنادق تسيَّدها الشَّوام من جنس بيروت وما شابهها؛ بينما كان لمصر الكنانة محلها من الإعراب في قطاعات الجنوب الأخرى وإن نالت حظها من صناعة السياحة.. المطاعم الفاخرة التي تنضح بطيبة العاملين فيها كان مُلاكها من خارج حدود جوبا المنهكة من فرط الأجانب.. العمالة والبضائع اليوغنية والكينية حد (الشطة الخضراء) من أراضٍ غير الجنوب ليمتص الجميع خير البلاد التي هزمها أبناؤها ذات ديسمبر2013م، فاتحين جرحاً أرهق الجميع إغلاقه ليتسيَّد أصحاب القبعات الزرق حيزاً من المشهد، وتُزحم الشوارع بالفارهات برغم عدم جدوى الوجود. تجربة الخرطوم: باعتداد الواثقين المسيطرين جلس وزير الداخلية مايكل شان جييك على يمين(السوداني)، شاخصاً ببصره ملتقطاً أنفاس الحكمة ممزوجة بالصدق بحثاً عن إجابة في كيفية تحقيق الأمن في جوبا، برغم استمرار النزيف.. ليدهش الجميع بالقول: إستفدنا من تجربة الخرطوم ونقلناها إلى شوارعنا عبر أطواف الشرطة المتحركة في المدينة. مقارناً الوضع الحالي بما كان عليه العام الماضي وأضاف: الأحياء الطرفية شهدت وقتها اسلوب أخذ الحق بالقوة وباليد ولم يكن يستطيع أي شخص أن يتحرك ليلاً في أي مكان. مراهناً على أن عاصمته اليوم من أأمن العواصم برغم استمرار البحث عن سلامٍ مفقود. مؤكداً أن أي شخص يحضر من خارج الجنوب يمكن أن يشعر أن الوضع غير مطمئن، لكن ذلك غير حقيقي وأضاف: جوبا آمنة أكثر من نيروبي لجهة صعوبة الخروج ليلاً في العاصمة الكينية دون التعرض لكافة أشكال المخاطر.. وقطع وزير داخلية الجنوب بأن السلام آتٍ لا ريب فيه، وأن أزمة الأمن في الجنوب حالياً تتلخص في الوجود الأجنبي. كاشفاً عن إلقاء قواته القبض على 17 صومالياً ينشطون في تجارة البشر وترحيلهم من بلاده، مؤكداً انطلاق حملة شرسة لحصر الوجود الأجنبي بجنوب السودان.. ثقة الوزير الشاب الذي أثنى على مجهوداته الرئيس سلفاكير أكثر من مرة، تجلَّت في توصيفه للترتيبات الأمنية التي تستبق انعقاد مؤتمر النفط الولي والإقليمي الذي ينطلق اليوم وحتى 12 أكتوبر الجاري بالعادية، لجهة أن بلاده أمنة وأن الضيوف سيجدون ما يسرهم من خلال بسط هيبة الدولة. إتهام جوبا الدائم من قبل الخرطوم بإيواء الحركات المسلحة وتحديداً الدارفورية، وجد رفضاً من وزير داخلية الجنوب؛ مدللاً على عدم حدوث ذلك بأن بلاده تعاني اقتصادياً، فكيف تقدِّم دعمها للحركات.. قبل أن يفجِّر قنبلة من العيار الثقيل كاشفاً عن إقالة والي ولاية رون بولاية الوحدة السابقة بسبب رفضه الإنصياع لموجهات القيادة الجنوبية بطرد مجموعة من الحركات من ولايته، ليصدر في ذات اليوم قرار الإقالة.. (السوداني) في بلفام: قاعدة بلفام العسكرية ترتبط في الأذهان بأنها مصدر كل الشرور التي تمس الجسد السوداني، وأضحت صورتها كفزَّاعة لدى الحديث عن الحركات المسلحة الموجودة في الجنوب، وأنها، أي بلفام، هي الحاضنة والداعمة.. لكن بلفام كانت أمس شامخة ومترّعة بالأمل المستمد من نظرات تمثال الأب المؤسس د.جون قرنق دي مبيور في مدخلها.. بلفام وقفت مبتسمة وهي تحتضن بني السودان الأم وتحييهم بمكوناتها العسكرية من مختلف الرتب.. ولم يحفل نائب وزير الدفاع طوي شان بالبروتوكول والجنرالات يحيطون به، وهو يبدو متأنقاً في بدلته الزرقاء لتتواطأ مع ابتسامته الدافئة وهو يستقبل (السوداني) ألقاً وتضفي عليه حيوية ونشاط برغم الإرهاق المُطل من عينيه.. ويبدو أن الطبيعة الخاصة للمكان كان لها دورها في تقليل الحديث وتبادل الكلمات؛ قبل أن يقطع الرجل بأن الوضع آمن تماماً في بلاده، وأنهم ينتظرون فتح الحدود بين البلدين؛ قاطعاً بأن كل الإتهامات ستموت في اللحظة التي سيتم فيها تكوين القوات المشتركة المعنية بتمشيط الحدود؛ مرجعاً تأخر اجتماعات اللجنة السياسية الأمنية إلى الأوضاع السياسية؛ وأضاف: لكن اذا إلتقى الرئيسان فإن كل المشكلات ستُحل لأن الرئيسين يمكن لهما إصدار توجيه بمباشرة عمل اللجنة فوراً.