عباس العقاد: إنني من المعجبين بالأديب المصري عباس محمود العقاد، فهو رجل عصامي قرأ بقلبه وبعقله، وسجّل ما قرأ، وبدأ يكتب معتمداً علي ذكائه في القراءة والتحصيل، وأذكر عندما كنت صبياً غضاً في الأولي ثانوي، وطلب مني أستاذي في اللغة العربية أن أكتب موضوعاً في الإنشاء، والإنشاء تعني أن ينشئ الطالب مقالاً أو بحثاً أو قصة هي من قريحته وإنشائه، وجاء يوم التقديم لما كتب الزملاء وما كتبته وأنا واحد منهم، لي مالهم، وعليّ ما عليهم، وفوجئت بالأستاذ محمد عبد السلام الضخم الفخم، القوي في اللغة، والمعلم الباهر ينادي إسمي، وبصراحة لقد دخل الخوف إلى قلبي، وبدأت في التخمينات ولكنه قطع تأملاتي الخاصة، وسألني لمن تحب أن تقرأ، وسرعان ما أجبت طه حسين، والعقاد والمنفلوطي، والبارودي، وعلي أمين ومصطفي أمين، وسريعاً ما أجابني يا إبني أنت متأثر بشدة بأسلوب طه حسين وميال إلى العقاد، وكان طه حسين بالذات من محافظتي التي ولدت في أحدى بلادها، وكنا أحياناً نطلق الإشاعات عن طفولة طه حسين، وبأن إسمه الأصلي هو حنا حنين، وهذا يعني نوع من الإستيلاء حتى يكون الأديب مثلنا، مسيحي المنشأ، وهذا طبعاً لم يكن مهماً، المهم أنه أديب نجيب لبيب كنت أقرأ له سعيداً بما يكتب، وكنت أقرأ للعقاد ومن كثرة تدقيقه في الأمور كنت أقول أن العقاد معقد، ولكن هذا رأي سطحي، المهم أن الأستاذ المحترم، عضو جمعية الإخوان المسلمين في عز معركتها مع عبد الناصر، أو معركة عبد الناصر معها فقد أعلن للطلبة أنه يرغب في أن يعطيني النمرة النهائية في الموضوع الذي كتبته، ولكنه آثر أن ينقص نصف درجة من العشر درجات حتى لا أستكبر، وبعدها أنفتحت شهيتي للقراءة، فالذي لا يقرأ لا يقدر أن يكتب، وبدأ أعجابي بالعقاد يتنامى فهو لم يذهب إلى بعثة ليدرس بالخارج، فهو ليس خريج جامعة، ولا يحمل حتى شهادة الإبتدائية، لا نعرف ما هي ظروفه ولكنه قرأ وأستمر يقرأ، ثم صار كاتباً صحفياً، وكان يدعى من الجمعيات والمنتديات الثقافية لكي يقدم محاضرات ثقافية، وكان أنيس منصور سعيداً جداً بالعقاد، وكان يستفز العقاد فيتكلم متحمساً بما إمتلأ فكره من قراءته. ومنذ آن قريب كنت في زيارة الدكتور نصري مرقس، النشط في حقوق الإنسان، والنشط في الدراسات السودانية، وكان من الطبيعي أن أتطلع إلى مكتبته، وكان أول ما جذب التفاتي كتاب ساعات بين الكتب لعباس محمود العقاد، دار الكتاب العربي، بيروت الطبعة الثانية 1969م، وأندهشت فهذه أول مرة أرى مثل هذا الكتاب، لقد قرأت عبقريات العقاد، وأعجبت جداً بما كتبه فيها، وأعتز بشهادته للسيد المسيح، وهو يلقبه إبن الإنسان الذي كان له، والذي أحصى العقاد المرات التي ذكر فيها، وكتب العقاد عن التلاميذ أمانتهم وبساطتهم، وقال إنهم ليسوا مخدوعين، ولا يقدروا أن يكونوا مخادعين، وهذا رد واضح علي من يقولون بتحريف الكتاب المقدس، وعلى الأخص أن الإنجيل كتبه جماعة تلاميذ السيد المسيح، وأذكر هنا إحقاقاً للحق، أن الدكتور نصري مرقس قال لي إن هذا الكتاب من تراث أبو زوجته دكتوره أملي، وهو وديع شحاته، الذي كان أديباً لبيباً، كان يقرأ كثيراً، ولكن ندر أن يكتب، وهو من المدرسين الأقباط السودانيين، الذي حمل الكلمة والعلم إلى مناطق نائية، فلقد كان مدرساً في مدارس جبال النوبة، وكان مع زملائه المدرسين وديع قلادة، وتادرس الفرشوطي، ومنير متي ومراد متي، وصموئيل توفيق، ومحروس ديمتري، وكانوا كلهم أساتذة ركبوا الصعاب ليصلوا إلى مواقع عملهم، وفهموا وتعلموا لغة أبناء جبال النوبة، وأستعملوا الدواب، وركبوا الحمير في المواسم السهلة، أما موسم الخريف فكانوا ينتقلون على ظهور الثيران، لقد عانوا ما عانوا، وتعبوا وكانوا سعداء بعملهم، وأستفادوا بوجودهم خارج زحمة العاصمة ليقرأوا ويتأملوا. بين الكتب: وكتاب عباس العقاد، ساعات بين الكتب، هو لم يذكر عدد الساعات، ولكن يبدو أنها كانت كثيرة جداً، فالعقاد تفرغ للقراءة والكتابة، وكنا نعتقد أنه لا يعرف سوى حب القراءة، ولكن كان يعرف الحب الذي نعرف، وكان يكتب رسائل حب وغرام، وفي إعتقادي أن سارة التي كان يبادلها الغرام كانت من صنعه وإبداعه، فهي الحبيب الذي رسم ملامحه ورسم له معالم الطريق، وكان يكتب إليه رسائل الحب والغرام، وقال إن أجمل رسائل الغرام هي التي يكتبها ويمزقها ولا تصل إلى صاحبها، لست أدري ما معنى هذا، إن العقاد فيلسوف وله فلسفته الخاصة، وكان يحب أن يكتب، وفي نفس الوقت كان يحب الصور، وفي كل صورة مجودة عبقرية، ونفس شاخصة، وتاريخ قد يفوق التواريخ والقصص، بما تضمنه من غرائب الأقدار، ونوادر الأسرار، كما يرى أن الكتب والصور يتساويان في الأهمية والمكانة وفي غلاف كتاب ساعات بين يدي العقاد يكتب الناشر مشيراً إلى أهمية الكتاب وأهمية الكاتب فيقول: أدب وأدباء، شعر وشعراء، فلسفة وفلاسفة، تاريخ ومؤرخون، آراء ومعتقدات ومذاهب ودعاة وأنصار ومروجون نقد ونقاد، ومناهج للنقد، فن وفنانون، سير وتراجم من الغرب، ومن الشرق، ومن الأقدمين والمعاصرين. يقدمها العقاد في الكتاب، بأسلوبه البليغ وعباراته الجميلة المحكمة، وبما عرف عنه من دقة البحث وعمقه وإستقصاء وتتبع وغوص إلى أغوار الحقيقة، إنه لثروة أدبية وفكرية جديرة أن تقتنى.