سيكتب التاريخ، كما ستسجل موسوعة غينيس للأرقام القياسية، أن السودان هو البلد الذي شهد أكثر عدد من جولات المفاوضات غير المنتجة منذ أن عرفت البشرية هذا السبيل من أنواع التفاهم بين البشر لتسوية الخلافات سواء بين الفرقاء في بلد واحد، أو بين الدول.. ليتحول ببساطة البلد الذي كان مرجواً لنهضة تحقق سلة غذاء تفيض بالخير العميم عليه وعلى بقية العالم، إلى سلة مفاوضات ل "طق الحنك" باسم السلام الذي لم ولن يتحقق أبداً ما دامت الطبقة السياسية على امتداد فرقائها لا تعرف معنى للتفاوض إلا إذا حقق أجندتها الذاتية الضيقة، ودعك من الشعارات والقضايا الكبيرة التي تُستخدم لأغراض ذر الرماد في عيون البسطاء المكتوين بنيران الحروب الأهلية البغيضة، التي لو كانت حقاً هي الدافع عند كل الأطراف لما تأخر تحقيق السلام يوماً واحداً. (2) ليست هناك أية مفاجأة في الإعلان عن فشل منبر جوبا في توقيع اتفاق بين الحكومة الانتقالية وبعض فصائل الحركات المسلحة كما كان مقرراً له اليوم، فهذه ليست المرة الأولى، ولن تكون الأخيرة، لسبب بسيط هو أن المنهجية الخاطئة التي تدار بها عملية البحث عن تسوية نهائية لأزمة السودان السياسية لا يمكن أن تصل إلى نتيجة عبر المنهج نفسه الذي كان متبعاُ في ظل النظام السابق بعقد تسويات جزئية وصفقات ثنائية لتأمين مناصب ومكاسب في السلطة والثروة تحت مزاعم شعار كبير هو اتفاقية سلام لم تحقق أي منها سلاماً حقيقياً على أرض الواقع لأنها لم تكن معنية بذلك ابتداءً، إذ لم تكن تعدو أن تكون مناورات لتحسين شروط إرضاء النخب المتصارعة، وليس حل جذور الأزمة الوطنية السودانية. (3) بدأ التفاوض تحت الوساطة الجنوب سودانية معلولاً منذ أول أيام، وكل طرف لا ينظر لأكثر من تحقيق مصالحه الذاتية تحت لافتة مفاوضات السلام، التي جرى الترويج بأنها قاب قوسين أو أدنى، تحت مزاعم لم تثبت صحة أي منها حتى اليوم، فقد قيل إنه حوار وليس تفاوضاً، بحسبانه يجري بين شركاء على الضفة ذاتها من الموقف السياسي أسهمواً معاً في إزالة النظام السابق الذي كان يعتبر العائق الوحيد أمام الوصول إلى سلام مستدام في البلاد، وقيل إن الأمر لن يستغرق بضعة أشهر حتى تستوي سفينة السلام على الجودي، ليتحقق بذلك إنجاز أهم أولويات الحكومة الانتقالية لتنصرف لما هو أهم، وهكذا جرت الأيام شهراً بعد شهر حتى شارفت العشر، فإذا التحالف الوحيد الذي كانت تُدار معه المفاوضات ينقسم على نفسه، والتشاكس يزداد بين مكونات الترويكا الانتقالية الحاكمة وبات مختلفاً حول كل شيء بما في ذلك ما يجري في جوبا. (4) يثبت هذا التخبط في ملف السلام، والذي هو القضية الأولى ليس للطبقة الحاكمة، ولا للفصائل المسلحة، بل لملايين السودانيين الذين ظلوا يدفعون على مدار عشرات السنين من أرواحهم وحقهم الأصيل في حياة كريمة، ثمناً لأطماع النخب المتصارعة باسمهم، لقد كان التغيير الذي أحدثته تضحيات الجيل الجديد الكبيرة في ثورة ديسمبر المجيدة كافياً لإيقاظ وعي هذه النخب وتحمل مسؤوليتها الوطنية في البحث عن مشروع وطني يعالج جذور أزمة الحكم في السودان بكل تجلياتها، فليست هناك مشكلة منفصلة في دارفور، عن تلك في جبال النوبة، أو تلك في جنوب النيل الأزرق، أو الشرق أو في غيرها من أصقاع السودان، فكلها تعود لجذر واحد، ولا يمكن أن تخاطب مشكلة كل طرف معزولة عن غيرها، كانت هذه فرصة لجميع الفرقاء السودانيين أن يجتمعوا هنا في عاصمة بلادهم ليبحثوا مستقبلها، ولكنهم للأسف آثروا إدمان البحث عن حلول لا تأتي من الخارج حتى ولو كانت من بلد باب نجارها مخلع في شأن السلام بالذات. (5) من الغفلة أن يظن أحد أن التوقيع مع هذا الفصيل أو ذلك سيجلب سلاماً، لن يكون أكثر من صفقة لبناء تحالفات قصيرة النظر، ومحدودة الأثر لن تقود إلا إلى المزيد من التشرذم واستدامة التنازع، سيكون من العبث مع تكرار هذا التعثر لمنبر جوبا انتظار أن يأتي بشيء ذي بال دعك من أن يسمى سلاماً. لقد حان الوقت لإطلاق عملية جدية لحوار سوداني شامل تعامل في إطاره قضية الحرب والسلام كوحدة واحدة، وهناك الكثير من الصيغ التي يمكن من خلال حوار حقيقي أن تنظر في هذا الإطار الكلي لخصوصية كل منطقة بتمييز إيجابي بما يحقق لها تطلعاتها في إطار وطني شامل. غير ذلك سنظل ندور في حلقة مفرغة تنتظر سلاماً متوهماً لن يتحقق أبداً.