الجزء الثاني موقعة الأحد.. في استاد أديس أحمد طه هبطت مطار أديس أبابا في السادس والعشرين من سبتمبر قادماً من القاهرة للحاق بالدعوة المقدمة من مدام رومان زوجة الفنان الإثيوبي الراحل تلاهون قسسا والتي دأبت على الاحتفاء بعيد ميلاده الموافق 17مسكرم الموافق 27سبتمبر من كل عام، وصادف في نفس اليوم في شيراتون أديس توقيع الاتفاقية التاريخية بين السودان وجنوبه.. كانت احتفالية تلاهون التي امتدت لخمس ساعات متواصلة عملاً متميزاً أعد له أصدقاء تلاهون بقيادة مدام رومان إعداداً جيداً. =مقدمة لابد منها لم يكن ضمن برنامجي حضور المباراة بين الفريق القومي السوداني ونظيره الإثيوبي، ولكن ضجيج الصحف وحديث المجالس وصوت الميديا العالي حول هذه المباراة جعلني أحرص على حضور المباراة ولا سيما أني لم أحضر مباراة الخرطوم بسبب إصابة إبني في نفس اليوم.. وكنت في اليوم الذي سبقها أحاول جاهداً لملمة الأحداث المفتعلة التي أثارت الفريق القومي الإثيوبي تلقيت بسببها مكالمتين مهمتين الأولى من السفير أبادي زامو سفير إثيوبيا في السودان وكان متواجدا وقتها بإثيوبيا والأخرى من السيد شنافي السكرتير العام لاتحاد الكرة الإثيوبي وتحدثا حديثاً غاضباً عن المعاملة السيئة التي وجدها الفريق الإثيوبي عند وصوله الخرطوم ونقله إلى فندق درجة ثانية "التاكا" فهرعت إلى مكاتب الاتحاد العام لمقابلة المسؤولين حول هذا الموضوع فوجدت "فاكساً" من الاتحاد الإثيوبي فيه موافقته بالنزول في فندق التاكا.. واتصل السفير مرة أخرى مؤكداً بضرورة نقلهم إلى هيلتون وتحمل السفارة مصاريف الإقامة ولكن الإخوة في الاتحاد العام كانوا قد سبقوني في ترحيلهم إلى هيلتون وتحمل نفقات الإقامة وفقاً لشروط الاتحاد الإفريقي والحفاوة السودانية بل وافقوا بتوفير تذاكر للجالية الإثيوبية في الخرطوم وأخذت مندوبهم لاستاد الهلال لمعرفة المكان المخصص لهم. لم أجد سبباً لهذا الضجيج الذي وجدته في أديس أبابا حول سوء المعاملة خاصة وقد زرت الفريق في مقر إقامته في هيلتون وتحدثت إليهم وطيبت خاطرهم رغم قناعتي بأن ما حدث لم يكن مقصوداً.. أما ما حدث في المباراة التي لم أشاهدها وضربات الجزاء التي رجحت الفريق السوداني فهذا شأن كروي فني لست طرفاً فيه.. =العاصفة التي سبقت العاصفة تخلف الفريق القومي الإثيوبي عن الوصول إلى نهائيات القمة الإفريقية منذ عام 1976م، ركز الأثيوبيون خلال هذه الفترة على البطولات العالمية الفردية وخاصة رياضة العدو أنجبت تلك الفترة عدائين وعداءات حصدوا الذهب في المضامير العالمية ولم نعد نتذكر من الكرة الإثيوبية إلا اللاعب "منقستو" الذي تسمى به أحد لاعبي القمة في وقت مضى، وكعادة الإثيوبيين لا يتركون الأمور المهمة للصدف إذ وضعوا إستراتيجية وخطة فنية للحاق بالأمم الإفريقية في مجال كرة القدم وبدأ إعداد فريق من المراحل السنية مدعوماً بالخبرة الفنية والميزانية السخية والدعم الرسمي والإعلامي والشعبي فاصطدموا بضربتي الجزاء في الخرطوم اللتين كادتا أن تطيحا بآمالهم ولكنهم عادوا أكثر إصراراً ودخلوا في معسكر مقفول وضعوا بين يدي جهاز الفريق الفني كل الإمكانيات لتجاوز هزيمة الخرطوم وبدأ اتحاد الكرة التخطيط لهذه المباراة وتوفير الإعلام وفنايل التي شيرت وبدأ الإعلام يخوض معركة دونكشوتية لعدو وهمي لم يكن يأخذ الأمر بهذا النحو العدائي الصاخب. لعبت الإذاعة ال( إف إم) دوراً مهماً في الحشد الإعلامي والشحن المعنوي من خلال اللقاءات وتلقي المكالمات الهاتفية وتفرغ كتاب الأعمدة الرياضية في الصحف. ومعروف عن الإثيوبيين حبهم للكرة من خلال إنتمائهم لفرقهم المحلية مثل سانت جورج والبن وغيرهما ومن خلال متابعتهم لكرة العالمية خاصة الأوربية، وتكاد الشوارع أن تخلو من السابلة ويهرعون إلى المنازل والفنادق لمتابعة مباراة في الدوري الإنجليزي والأسباني ولا يعبأون كثيراً بالكرة الإفريقية بعد أن غابوا عن ساحاتها وهم من مؤسسي الاتحاد الإفريقي لكرة القدم.. وهاهم يقتربون من النهائيات.. وهي فرصة نادرة لابد من اغتنامها بكل السبل ولا سيما أنهم قد أعدوا أنفسهم جيداً لهذا النزال.. كان الأحد الماضي في أديس أبابا يوماً مشمساً وصحوا، تقاطرت الآلاف منذ الصباح الباكر نحو الاستاد وفاض ميدان مسكل أسكوير بالبشر وانتظمت الصفوف نحو بوابات الاستاد.. حشد لم أشهده من قبله في التظاهرات السياسية والاحتفالات الدينية والأعياد القومية.. وفرت السفارة السودانية في أديس حوالي مائتي تذكرة وعدد من بطاقات ال "إف بي أي" لمشاهدة المباراة التي أحجم 90% من السودانيين المتواجدين في أديس عن الدخول لمشاهدتها خوفاً مما لا يحمد عقباه بعد أن شاهدوا هذه الجماهير المحتشدة ودعوت كثيرا من أصدقائي هناك لخلع ثوب التردد والدخول للاستاد ولكن دون جدوى. =معركة عدوة في استاد أديس وصلت للاستاد بصحبة نائب رئيس البعثة هناك السفير الخلوق عبدالله وادي وبعض الأصدقاء من طاقم السفارة ولم نجد مكاناً في المقصورة بالرغم من بطاقاتنا الصفراء المخصصة "إف آي بي" فاستقبلنا الاخوة الإثيوبيون ووفروا لنا مقاعد يصعب متابعة المباراة منها.. فاستنجدت بصديقي الاستاد طارق عطا نائب سكرتير الاتحاد وتابعت المباراة من داخل سور الملعب وجلست في منصة إحدى كاميرات البث المباشر للتلفزيون الإثيوبي ومعي الأخوة من قناة الشروق وجريدتي قوون والصدى وغيرهم من الإعلاميين السودانيين، منذ منتصف النهار احتشدت الجماهير الهادرة في الاستاد وهم يؤدون أغاني الحرب المستلهمة من التاريخ الإثيوبي وأغاني الوحدة الوطنية التي ظهرت بعد قيام الفيدرالية والأغاني الوطنية خاصة أغنية الفنان تلاهون "أثيوبيا" انجنا مكمشا..أنات آقري "أي" أثيوبيا يا مصدر فخارنا واعتدادنا.. أيها الوطن الأم.. يقود هذه التعبئة الجماهيرية إعلاميون محترفون عبر مكبرات الصوت الموزعة في الاستاد.. واكثر ما لفت نظري هو ما يبث من خلال لوحة نتائج المباريات من بلازما ضخمة تبث آخر فيديو كليب للمغني الإثيوبي الثوري "تيدي آفرو" وهو بعنوان "توكور.. ساو" أي "أسود البشرة" وهو فيديو كليب مصاحب لغناء تيدي عبارة عن معركة عدوة التي انتصر فيها الأحباش على الايطاليين والتوكور ساو.. هو الإثيوبي أسود البشرة الذي هزم إيطاليا وهو اسم أطلقه عليهم الأعداء وعنوا به منليك الثاني والمحاربين الحفاة.. وأعادوا بثه بين الشوطين وكانت نتيجة الشوط الأول التعادل بفضل جسارة وخبرة الحارس المعز محجوب.. كان الاستاد يغلي بالحماس وزادت جرعة الوطنية بفضل الفيديو كليب ودخل الفريق الإثيوبي وسط هذا الدعم الجماهيري ودخل فريقنا القومي وهو يلقي هتاف حفنة من جمهور السودانيين الأوفياء الذين حرصوا على حضور المباراة ودعم فريقهم يتلفح بعضهم بعلم السودان أما العلم الإثيوبي فكان يغطي مدرجات الاستاد يلوحون ويلبسونه وكان الأخضر والاصفر والأحمر هي الألوان المسيطرة على المشهد رغم نتيجة الشوط الأول التي كانت في صالحنا ، لم نكن مطمئنين الا اذا أدار الجهاز الفني الشوط الثاني للمباراة ... ولكن سرعان ما أحرز الفريق الإثيوبي هدفه الأول، وأعقبه بالثاني ولم نفقد الأمل خاصة بعد إصابة الحارس الإثيوبي في الدقائق العشر الأخيرة وكان المدرب قد استنفذ فرص الغيار وجاءت فرصة ذهبية أهدرها المهاجم السوداني من خط ستة الى السماء كانت لحظات من الحزن المرير والاحباط أصابنا ونحن نرى هيبة الكرة السودانية تهدر تحت أقدام لاعبينا وهم يجرجرون أذيال الخيبة التي علت وجوهنا.. بعد إعلان الحكم السنغالي نهاية المباراة التي امتدت لما يقارب المائة دقيقة حتى بدأ الاحتفال التلقائي داخل الاستاد واختلط الحابل بالنابل وخرج المنتخب القومي دون أذى من أحد بل تلقوا تصفيقاً وربتا على الكتوف. =ما بعد المباراة بقيت في الاستاد لمشاهدة الاحتفال العفوي وخرجت بعدها للوقوف على رد الفعل في الشارع.. خرجت عربة السفير الفريق أول عبدالرحمن سر الختم إلى الشارع المحتشد وعلم السودان يرفرف في مقدمتها والجماهير الإثيوبية تهتف له.. نحن نحبكم بالانجليزية وبعربية "مكسرة" مافي مشكلة "مشكلة مافي" وحكى لي السفير وهو يجلس مع رئيس المباراة وسبعة من الوزراء وهم يرتدون العلم الإثيوبي شالات حول أعناقهم عن الشعور الذي وجده من الرسميين ودفعه هذا الشعور الطيب للإعلان عن استعداد السودان لإقامة معسكر إعداد الفريق في السودان.. تحادثنا حول هذا الأمر قبل سفري بساعات واقترحت عليه مدينة بورتسودان أو كسلا.. أقام السفير في نفس يوم المباراة حفل عشاء بمنزله خاطب بعده الفريق بلغة الدبلوماسية و"ناس الكورة" وهو رياضي مطبوع بعد هذه الأيام لإقامة حفل شاي لتكريم الفريق في النادي السوداني بأديس أبابا. =كسرة أخيرة بعد نهاية المباراة تجمع معظم سكان أبابا حول الاستاد وميدان الحرية وغطت موجة فرح عارم شوارع المدينة.. أضاءوا المشاعل والشموع والطبول وأطلقوا منبهات العربات وملأوا الشوارع وهم يرقصون ويصرخون.. الصراخ تعبير عن الفرح العارم عند الإثيوبيين.. كان درساً في الوطنية أتمنى ان نكون قد استوعبناه، علمونا كيف نقف خلف فريقنا القومي وهو يرتدي شعار الوطن.. فنحن ندفع دفعاً لمساندة فريقنا القومي دون جدوى وننحاز للفرق المحلية دون الوطن.. آه يا وطني الحبيب.