في الأسبوع المنصرم وفي اطار البحث عن الاستقرار توجت نضال وسعي السنوات بالانتقال (لبيتي الخاص) بالكلاكلة بعد سنوات من العذاب والمعاناة في بيوت الإيجار ومساكن الحكومة ،فكانت الفرحة التي وسعت كل أفراد أسرتي الصغيرة وذلك تزامناً مع تقاعدي من العمل بالشرطة ، أصبحت سعيداً بتحقيق هذا الحلم الذي طالما راودني وطال انتظاري له والذي من المؤكد أنه جاء إدراكاً لأهمية المأوى في الاستقرار النفسي والجسدي كما تقول مواثيق الأممالمتحدة واعتبرته من حقوق الإنسان الأساسية . البيت متواضع من حيث التصميم والموقع في حي شعبي يبوح بمشاعر إنسانية ناطقة ولا يدخل بالطبع في دائرة الفلل والعمارات الشاهقة التي تترصدها لجنة إزالة التمكين لمصادرته أو اعتباره وجها من أوجه استغلال النفوذ والسلطة ، لكنه يستر الحال ويعزز الإحساس بالخصوصية ونشوة الامتلاك الضامن من غدر الزمن ، وفوق هذا كله فإن أهمية البيت تكمن في أنه مستودع أصيل لتنامي بعض الأحاسيس الجوهرية في حياة كل إنسان ، ففيها تغرس البذرة الأولى للانتماء لحيز جغرافي محدود تكبر وتتعاظم مع الزمن للانتماء لوطن حدادي مدادي ، وفيه يولد اعتزاز الإنسان بكرامته وعزته وإرادته الحرة التي تهدرها بيوت الإيجار التي لا تولد فينا إلا انكسار النفس وجرح الخاطر والإحساس العميق بالقصور والمهانة. البيت أعطاني أحساساً جميلاً بأن ما امتلكته لم يكن مجرد بيت محدود المساحة بل وطن أفديه بنن العين ونبض الوريد ، ستولد فيه ذكريات أطفالي وستبقي مراتع صباهم فيه ، سيكبرون ويحددون مستقبلهم فيه. وأنا في خضم هذا الاحساس الجميل والزهو بما تحقق وتهانئ الأقرباء والأحباب والأصدقاء والجيران وأثناء تفقدي للبيت مرة لسد بعض الثغرات استعدادا لفصل الخريف وقع نظري على بعض الحفر الحديثة في بعض أركان البيت وزوايا الغرف وما هي إلا لحظات حتى قفز فأر صغير من إحدى حقائبي التي أحتفظ فيها ببعض الكتب المهمة ، ومع اجتهادي في البحث عن نوايا الخراب اكتشفت سربا من الفئران حول الحمى هي التي تقوم بهذا الدور القذر ، وجدت أنها تدخل للحقائب خلسة (وتقضم) الأوراق مالاً أم أوراق كتب ،فهي للأسف لا تميز بين المال والكتب وما تحويها من كلمة علمية وأدبية وتاريخية ، بدا لي الأمر كأن هذه الفئران تتحداني وتريد أن تبخس هذا العطاء الذي نال استحسان الناس هنا وهناك ، ولأن بيت الشورى ما خرب وذلك إيمان لا يخالجه شك في تجربتنا الإنسانية ، سألت أحد الجيران وهو من قدامى مفتشي وقاية النباتات ، سألته عن ظاهرة الفئران وبعض الزواحف التي تقلق منامي ، وقال الرجل مازحاً إن هذه الفئران تعتقد اعتقاداً جازماً أن هذا البيت كان ملكاً لهم منذ أن كان مشيداً بالجالوص وكانت هي تمرح وتلعب بدون حسيب أو رقيب ، وما هذه الهجمة إلا لقناعتها أنك اخترقت وتعديت على مملكتها الخاصة ، وهي لم تكتف بهذا الهجوم الأولى بل ستواصل وستكرر الحفر باستدعاء الفئران الضالة من كل فج عميق وتوقظ لتلك المهمة كل الخلايا النائمة ،وسألت الجار ايضاًً عن ماهي دلالة الأصوات التي تصدرها هذه الفئران وهي تتقاذف من هنا وهناك ، فقال الرجل إن تلك الأصوات تقول إنه حفر مقدس وإنها حرب لا هوادة فيها لاستعادة عرشها القديم الذي تسلل من بيت أيديها في لمح البصر . هنا استشعرت الخطورة في نوايا هذه الفئران وقلت لأهل بيتي لن تفلح المعالجات التقليدية القديمة من نصب الشراك ودس السم في الدسم ، بلا لابد من رفع الوعي بخطورة هذه الفئران على بيتنا ولا يكفي أن أقوم مفرداً بهذه المهمة كرب للبيت ، بل لابد لكل أفراد البيت أن يكون لهم شرف الدفاع عن البيت حتى تعود هذه الفئران لجحورها بعيداً عن بيتنا.