المشهد للوهلة الأولى كان يعكس حجم القلق والترقب وربما التوقع، سواء من عضوية الحزب الحاكم أو قادته الذين أترعوا باحة المركز العام بأرتال من السيارات اللاندكروزر، فيما تزاحم عشرات الصحفيين والإعلاميين ووكالات الأنباء بحثاً عن خبر يبلل ظمأ الباحثين عن بديل. الترتيبات كانت عادية، أما في الداخل فخيَّمَ الهدوء على المكان، فالجميع كان في حالة ترقب وانتظار إلى أن حضر رئيس الجمهورية رئيس المؤتمر الوطني، فيما شوهد وزير الدولة برئاسة الجمهورية مدير مكتب الرئيس حاتم حسن بخيت في باحة المركز العام رغم أن لرئيس الحزب مكتباً فخماً كان يجلس فيه سلفه الفريق طه عثمان بالساعات الطويلة أثناء الاجتماعات التي يحضرها البشير. في المقابل، نشط مكتب الرئيس في الحزب ابن عمر إبراهيم، منذ وقت مبكر، في التحضيرات الخاصة بالاجتماع وتحضير أجندة رئيس الجمهورية. أما أبرز مشاهد ما بعد انتهاء الاجتماع تمثلت في وقوف الصحفيين والإعلاميين لما يقارب الدقائق الأربع في انتظار التصريحات حول مخرجات الاجتماع. ورصدت (السوداني) أن ثمة ارتباكاً حدث بسبب المهندس إبراهيم محمود، إذ تقتضي الترتيبات أن يلخص مخرجات الاجتماع ويقدم بديله، إلا أن الرجل على ما يبدو فضَّل المغادرة من طريق لا يلتقيه فيه الإعلاميون. في المقابل، كان الخيار أن يتحدث د.فيصل الذي رفض بصرامة قائلاً: "لا يمكنني أن أقول: تم اختياري"؛ بينما أعتذر جمال محمود عن الحديث، فيما أفلحت جهود وزير الدولة بالإعلام ياسر يوسف في إقناع فيصل بالحديث، الذي أعلن عن نفسه نائباً لرئيس الحزب، واعداً بالإجابة عن أسئلة الصحفيين في مؤتمر يُعقَدُ لذلك. دواعي التغيير ومبرراته في هذا التوقيت اتساقاً مع قرارات الرئيس البشير وسياسات الدولة الرامية لوضع النقاط فوق الحروف في كل شيء على مستوى مؤسسات الدولة، كانت الحاجة ماسة إلى مؤسسات حزبية تستطيع دفع سياسات الرئيس في الدولة، بكوادر قادرة ومستوعبة ومرنة وعلى درجة عالية من الكفاءة الاستيعابية، لذا كان رئيس المؤتمر الوطني وعضوية المكتب القيادي على قلب رجل واحد في هذا الاتجاه، وفقاً لمعايير ومطلوبات المرحلة القادمة التي ربما كان يعتزم فيها الوطني الرمي بكل أسلحته في استعادة الدولة بعد أن أنهكتها تقاطعات مراكز القوى كما يرى البعض. كثيرون اعتبروا أن مؤسسات الحزب كانت غائبة أو ربما ضعيفة خلال الفترة الماضية، الأمر الذي فرض على الرئيس البشير، أن يقوم بمهامه كرئيس للسودان ورئيس للحزب الحاكم في آن واحد، على الرغم من تعدد وزراء حزبه في جهاز الدولة. بيد أن كلمة السر في كل ذلك كانت القدرة على الاتساق مع خطوات قوش على مستوى الدولة الرامية لحسم التفلتات والفساد والقطط السمان مع مؤسسات حزبية تستوعب أهداف مؤسسات الدولة وأجهزتها، الأمر الذي اضطر الجهاز التنفيذي بقيادة رئيس الحزب ورئيس الجمهورية لملء الفراغ الذي أحدثه غياب ورؤى الحزب عن القضايا العامة، وليس أدل على ذلك من إنشاء المجالس الرئاسية المتخصصة وبحث الحكومة الدائم عن سياسات تساعد على رفع كفاءة الأداء في مؤسسات الدولة. (5) أسباب لمغادرة محمود السبب الأول أن وجود م.إبراهيم محمود في منصب نائب رئيس المؤتمر الوطني، جاء لأسباب طارئة بالأصل بهدف احتواء الأجواء الخلافية التي تصاعدت عقب انتخابات عام 2015م، هو ما دعا قيادة الحزب للبحث عن شخصية وفاقية لتسكين وتهدئة الأزمة الداخلية، وهو ما انتفت الحاجة إليه حالياً باعتبار أن الأزمات ما تزال قائمة بالتالي لا للشخصية الوفاقية نعم للشخصية الحاسمة. السبب الثاني في تقدير البعض يرتبط بالمقدرات التنظيمية، فالمهندس لم يتمكن من إحكام قبضته على مفاصل الحزب، وشهدت فترته كثيراً من التفلتات والخلافات سواء في المركز أو الولايات، ولعل أبرزها خلافات الجزيرة والبحر الأحمر وجنوب دارفور؛ بجانب أنه استعان بكادر قيادي محدود المقدرات والتجارب السياسية والتنظيمية، ما انعكس بصورة واضحة على أداء الحزب وتراجع حضوره السياسي، ولم يعد الحزب في عهده واضعاً للسياسات أو متابعاً لها. ولم يستطع محمود كبح جماح الأزمة الداخلية، بل إن أحد أبرز تيارات الحزب اتهم التيار الآخر باختطاف المؤسسات التنظيمية واتهم محمود بموالاة تيار د.نافع علي نافع. السبب الثالث بحسب الكثيرين في الإطاحة بإبراهيم محمود جاء نتيجة ما يُعرف بصراع مراكز القوى والتسابق الخفي نحو النفوذ والهيمنة، الأمر الذي دفع قيادات بارزة للإحجام عن العمل تحت إمرة إبراهيم محمود أو مساعدته على إنفاذ برنامج الحزب، وهو ما انعكس في فشل مشروع الحزب في الاعتماد على تنمية استثماراته وموارده المالية الذاتية بعد قرار رئيس الجمهورية بعدم الصرف على الحزب من خزانة الدولة. ولعل الدليل الحي على ذلك تمثل في فشل النفرة المالية التي أطلقها المؤتمر الوطني لجمع اشتراكات الأعضاء، بما في ذلك بعض رجال الأعمال المنتمين لعضوية الحزب فلم يفوا بالتزاماتهم المالية، ولم يتمكن إبراهيم محمود من إكمال مقر الحزب بعد أن تشتَّتَتْ أماناته المركزية خارج أسوار المركز العام وفتحت أبواباً جديدة للصرف باستئجار مكاتب ومقار للأمانات وصرف آخر للتسيير. السبب الرابع هو إدراك قادة المؤتمر الوطني بأن استمرار إبراهيم محمود يعني خسارة مؤكدة للحزب في الانتخابات المقبلة، بعد أن تسرب الإحباط لأعضاء الوطني بضعف الحزب وغيابه القاعدي في الأحياء والمدن بجانب إدراك حاجة الحزب لرجل قوي ومهاب ومقنع للعضوية لتنظيم صفوف الحزب وإعادة ترتيب أوراقه الداخلية المبعثرة. السبب الخامس هو أن إبراهيم ترك أمر مرشح الحزب لرئاسة الجمهورية في يد أحزاب حكومة الوفاق الوطني والقوى الاجتماعية التي أطلقت حملة قومية لإعادة ترشيح رئيس الجمهورية المشير عمر البشير في الانتخابات المقبلة، مكتفياً بالتفرج إزاء ذلك الحراك السياسي الكثيف الذي نقل الساحة الداخلية مبكراً لقضية الانتخابات الرئاسية والتشريعية، متأخراً بذلك كثيراً عن إصدار موقف مواكب لتطلاعات السودانيين والقوى السياسية الأخرى في ترشيح البشير، ولم يقدم على أي إجراءات تنظيمية متعلقة بإعداد سجل انتخابي دقيق ومحكم للناخبين المنتمين للوطني لتقدير موقف الحزب، ولم تبادر المؤسسات في عهده بإطلاق عملية سياسية عبر اتصال سياسي مع الأحزاب لبحث ترتيبات الانتخابات، وما يتصل بها من إجراءات دستورية، بل إنه وعندما أُتيحت الفرصة لتدارك الأمر في مؤتمر الشورى، أجهض مقترح ترشيح البشير. وهو ما اعتبرته قيادات بارزة في المؤتمر الوطني خطوة غير موفقة أضاعت على الحزب جهداً سياسياً كبيراً سيُنفقه في حشد التأييد الحزبي لترشيح البشير بعد بروز اتفاق القوى السياسية أو معظمها على البشير. كيف ستكون العلاقة بين إبراهيم وفيصل؟ الانتقالات التي تحدث في المواقع الحزبية بين قيادات المؤتمر الوطني، تأتي مصحوبة بمخاوف وهواجس بين القادمين والمغادرين. مخاوف تتركز حول مدى قابلية الطرفين لإمكانية التعاون وتبادل الخبرات، أو الخيار الأسوأ في (دسِّ) المحافير وإخفاء شفرات العمل وزرع الموالين للمغادر لإعاقة عمل القادم كما حدث في تجارب سابقة. النماذج السابقة بين مغادري المواقع والقادمين الجدد في الوطني تحكي ما حدث من ردود فعل، أدَّت لمواجهات انتهت بصراعات ومراكز قوى متمحورة حول الشخوص، فعندما أدار علي عثمان ود.نافع علي نافع الكابينة في مستوياتها السياسية التنظيمية أو التنفيذية تعددت بؤر الخلافات. وتكرر ذات السيناريو مع ب.إبراهيم غندور بعد أن خلف د.نافع في منصب نائب رئيس الحزب، ولم يشفع تاريخ العلاقة السياسية والعمل المشترك والمودة المتبادلة بين الرجلين في التقليل من محاصرة الرجل وإضعاف مواقفه قبل أن تطرق الخلافات بقوة على أبواب تلك العلاقة، عاصفة بكل ما هو جميل بينهما كما يقول مقربون منهما، محافظَين بالكاد على "شعرة معاوية". وبحسب تسريبات بعض أعضاء الحزب، فإن أسباب الخلاف تمثلت في الاستقلالية التي انتهجها غندور ومطالبته بعملية تسليم وتسلم شفافة، الأمر الذي أثار موجة توترات متصاعدة انتهت بالإطاحة بغندور من منصب نائب رئيس الحزب. ولذلك، فإن السؤال حول مستقبل العلاقة بين إبراهيم محمود وفيصل حسن إبراهيم، يظل بحاجة إلى إجابة خاصة في ظل ما يتردد من تسريبات عن خلافات عميقة حول الرؤى وقعت بين الرجلين وأدت لإبعاد فيصل من موقع مسؤول قطاع التنظيم بالوطني قبل أشهر قليلة، ومضت ذات التسريبات للقول بأن فيصل طلب إعفاءه من منصب وزير الحكم المحلي بعد تلك الخلافات التي جعلت الوشايات تتزايد، وتلخصت في أن إبراهيم محمود أقدم على تلك الخطوة بعد أن سعى فيصل للإطاحة به من الحزب. عموماً الواقع الحالي يقول إن الجفوة بين الرجلين ما تزال قائمة، وتعكسها الحملات الإعلامية لعضوية الوطني في مواقع التواصل الاجتماعي، وتعمل تارةً على تقزيم دور إبراهيم محمود، فيما تعمل حملات أخرى للإساءة إلى صورة فيصل وتقديمه كشخصية خلافية لا تؤمن بالقيادة الجماعية في العمل التنفيذي أو التنظيمي. عموماً طريقة مغادرة إبراهيم محمود عقب انتهاء الاجتماع ربما تشي بشكل العلاقة في مقبل أيامها. فيصل.. تفاصيل شخصية فيصل حسن إبراهيم يعد من القلائل في حزب المؤتمر الوطني الحاكم الذين استطاعوا أن يبقوا في أمانات الحزب الحاكم على الرغم، من أنه أمضى دورتين حيث تنص اللوائح على مغادرته الموقع. فيصل معروف بين أقرانه بشخصيته القوية ومن المعتدين بآرائهم، صارم، قليل الحديث، لا يتورط في ثرثرات السياسة، ووصفته تقارير إعلامية سابقة بأنه قليل التبسم، تكاد تغيب عن حياته اليومية ملامح الفرح وعلامات السرور. تنظيمياً يُعَدُّ من قلائل الوطني المتميزين في قطاع العمل التنظيمي، لا يعرف الحلول الوسطى، يقال عنه إنه يجيد ترتيب الأوراق المبعثرة، ويعرف تماماً كيفية إقصاء خصومه بنعومة. طبقاً لما رصدته (السوداني) من سيرته، فهو من مواليد عام 1956م بقرية "البحرية" في محلية أم دم حاج أحمد بولاية شمال كردفان، بحكم عمل والده شرطياً تنقل كثيراً فتوزعت مراحله التعليمية الأولية والثانوية بين الأبيض والنهود، قبل أن يرتحل إلى جامعة الخرطوم متخرجاً منها في كلية الطب البيطري، له من الأشقاء اثنان هما محمد وإبراهيم، كما أنه متزوج من السيدة خديجة سعد التي تعمل ضابطة إدارية، وله منها ثلاثة أبناء هم محمد ومهند ومصعب، وثلاثة من البنات هن إيناس وشيماء وعفراء، وجميع أبنائه يعملون في القطاع الخاص.