في يوم من الأيام كنت امر امام كلية الفنون الجميلة بجامعة السودان ،وتحديدا امام مكتب احد الاساتذة لم اعرفه ،كان الرجل قد اغلق مكتبه وتحرك مغادرا وكان يحمل حقيبة جلدية أنيقة ويجر رجله جرا بحركة متثاقلة ، يبدو انه مصاب بالفالج ،نادى طالبا يمر أمامه ، لم يكترث لمناداته، وجدت نفسى أمامه وجها لوجه ،قلت له نعم ،اى مساعدة ؟ طلب مني أن احمل عنه حقيبته ،(ممكن تشيل لى خرتايتى دى)؟ حملتها عنه وظللت امشى بجواره بذات الخطوات المتثاقلة كان يرتدي قميصا (نص كم) كنا نسميه (بوقي) بسيطا وأنيقاً ومتناسقا مع لون بنطاله البيج وصندلا(شبط) بلون بني،شعره متناثر وعلت وجهه ابتسامة لطيفة رغم الرهق والتعب الباديين على صفحات وجهه . ونحن نمشيان بذات الخطى المتثاقلة بدأ يستفسر عن احوالي واهلي ودراستي وعلاقتي بالجامعة ،؟ قلت : ازور بعض أصدقائي بالجامعة في كليات الجامعة وبعضهم بكلية الفنون وادرس بالمعهد العالي للموسيقى والمسرح. وهكذا ظل الحوار بيننا الى أن وصل الى سيارة كانت تنتظره . وطلب مني أن ازوره في مكتبه متى رغبت. ومرت السنين وفتح المعهد العالي للموسيقى والمسرح ابوابه للدراسة بعد انقطاع طويل وكانت المحاضرة دراسات سودانية وكان المحاضر هو نفسه الرجل الذي رافقته من مكتبه الى سيارته ،وكانت عنوان المحاضرة (المسكوت عنه في الثقافة السودانية) واستشهد بقصة تاجوج والمحلق والسبب الرئيس للحكاية واذكر فتح باب النقاش وأدليت بدلوي يومها حول (المسكوت) وتحدث للطلاب انني حملت عنه (خرتايته) ذات يوم بعد أن تجاهله شاب آخر كان يمضي أمامه ،حكى الموقف كانه حدث بالأمس مع انه مرت عليه سنوات. وبعد هذا الموقف ظللت ازوره باستمرار فى مكتبه بكلية الفنون في تلك الغرفة الضيقة المعتمة (ليس بها نوافذ) والتي تتحول في كثير من الأحيان إلى صالون فكري وفى هذه الغرفة يزوره عدد كبير من الناس.. زملائه، طلابه، صحفيين، يبحثون منظوره السودانوى . وكنت استمتع بمقالاته التي كان يكتبها فى صحيفة السودان الحديث حول السودانوية وحلقاته فب ذات السياق في اذاعة أم درمان. أبان تجربتي الاولى في الاذاعة السودانية ،خططت أن اعد برنامجا إذاعيا باسم نوافذ لم يستمر طويلا لا ادرى حتى اليوم لم توقف ؟ وهي سلسلة حلقات مع مجموعة من المبدعين الذين اثروا الوجدان السوداني تناقش السيرة الذاتية وشهادات من شهود عيان ونقاد وحلقة تخصص لقراءة بعض المختارات من إبداعهم وتختم بحلقة خاصة مع شخص مقرب للشخصية . فى بحثى عن سيرة احمد الطيب زين العابدين لإعداد الحلقة الاولى ويومها كان قد ارتحل عن دنيانا ،عرفت ان من الشخصيات الاثيرة اليه الاستاذ والمسرحي الفكي عبد الرحمن حيث تزاملا فى بخت الرضا، فاتصلت بالفكي عبد الرحمن واتفقنا على استضافته في البرنامج للتوثيق عن الراحل المقيم أحمد الطيب ويومها لم يمر على وفاته زمن طويل. تحدث يومذاك الفكي عبد الرحمن عن صديقه حديث الشخص العارف والملم بأدق التفاصيل ،وعرفت انهما كانا يستمعان كثيرا لأغنية الشاعر عبد الرحمن الريح بصوت حسن عطية وتجلى في الحديث عن صديقه ورفيقه وتذكرت حديث الاديب الطيب صالح أن اجمل النقد ما كان عن محبة وأظهرت الحلقة مدى المحبة التى تجمع الفكي عبد الرحمن وصديقه أحمد الطيب زين العابدين وفي غمرة استرساله وحديثه عن ذكرياته مع صديقه و مع اغنية ما لي غيرك : ما لي غيرك حياة يا اسمر يا رمز الضياء انت حياتي يا فاهم يا دارس معنى الحياة من ادبك ليك حارس من غير رياء يا باسم يا ناعس يا ملاك يا لابس توب الحياء انت حياتي ما شوهوك بفصادة على الخدود السادة طبيعي خلقة ربك ما داير زيادة مع لونك الاسمر ورد الخدود محمر لا بودرة لا احمر آيات محاسنك زي ماء الحياة بدأ الفكى يحكي عن أحمد الطيب وصوت حسن عطية يظهر كخلفية بصوت خافت لكنه مسموع ثم يرتفع تدريجيا وهنا بدأ الفكى يستعيد حنينه وأشجانه وذكرياته مع (الاغنية وأحمد الطيب) فبدأ نحيبه ثم نشيجه وساد الاستديو صمت مهيب حاول مغالبة دموعه ولم يستطع وصوت المغنى يردد: يا اسمر يا رمز الضياء انت حياتي يا فاهم يا دارس معنى الحياة من ادبك ليك حارس من غير رياء واختتمت الحلقة بهذه الاغنية ثم ذهبت اليه أخفف عليه بعض وجع الذكريات ،قال (الله لا كسبك) ثم ضمني اليه بحنان غامر كأنه يستعيد صدى الذكريات الغائبة منذ سنين. لهما الرحمة أحمد الطيب زين العابدين واستاذ الأجيال الفكي عبد الرحمن (العم مختار). إعلامى وأكاديمي