عالم من علماء السودان، يحمل في طيّات اسمه سرًّا ممّا حباه الله به، خصَّه الله بسماحة خلق، وتواضعِ وسعة بال، ولكن بقدر ما يقتضيه الموقف كان مجلاًّ للصّالحين، محبًّا لأصحابه من العلماء، كريمًا مع أهله وعشيرته، تُطربه مجالسُ الأنس، ودفوفُ المادحين، وكرةُ القدم، وأخبارُ المدينة وناسُها البسطاء. من تحت جبال أمّ درمان الحمراء، تشير الساعة الآن إلى السادسة صباحاً، هنا لا توجد خيوطٌ للفجر، أو انبلاجٌ متدرّج لشمسِ الصّباح، تدلق الشّمسُ أشعَّتها دفعةً واحدة، ثم لا تلبثُ أن تتحوّل إلى لهبٍ لافح، ولولا ذلك الغبارُ الذي يهبّ علينا أحياناً وهو مشبعٌ بالرّمال، لاحترق النّاسُ تحت قعر الجبل. تهرع حرمُه الفضلى السيّدة صفيّة مع نجمة الصّباح الأولى إلى إشعال القدر، وغلي الماء، بسرعة تعبّئ الشاي الأحمر في سراميس كبيرة، وتصبّ الحليب في الأصغر منها. هي لا تعرف عدد الضيوف الذين تلفحهم شمسُ الصّباح تحت أغطيتهم، ولا عدد الذين وصلوا إلى المنزل في هجعة الليل الأخير. ما إن تفرغ صفية من إعداد شاي الصباح، إلا وتشرع في تجهيز وجبة الإفطار وطرفُ ثوبها لا يزال نائمًا على كتفيها، أناسٌ كثر يملأون حوش البروفيسور، أتَوا من أماكن بعيدة، مرضى وطلاّب علم ومريدون وعابرو سبيل تقطّعت بهم السّبل، منهم مَن أتى إلى العاصمة لإنجاز معاملة صغيرة، أو لتناول جرعة دواء معدومة في قريته النائية، أو لمراجعة الطّبيب، والتزوّد ببركة البروفيسور. يقف البروفيسور وسط الضيوف. وبعد التحية، يصيح كما المنادي: من منكم يريد أن آخذه معي في طريقي؟ هذا النّداء لا يشمل أبناءه الثلاثة، فهم جاهزون بالضرورة للّحاق بمدارسهم. كنت من بين المحظوظين لمرافقة البروفيسور في بعضٍ من هذه الطلعات الصباحية، كنت حينها طالبًا بالجامعة. ينطلق بسيارته الأرجوانية من منزله الكائن في أقصى مدينة أمّ درمان، يتوقّف عند بائع الجرائد، ثمّ يعود سريعاً خلف مقوده ويطلب من أحدنا أن يقرأ له العناوين بصوت مرتفع. يضع البروفيسور ملاحظاته على الأخطاء اللغوية، ثم على صياغة الخبر، ثم أخطاء السّاسة وسوء المقصد. كنّا نفهم ما يقول عندما يتعلّق الأمرُ باللّغة، ونشرد ببصرنا خلفَ نافذة السيارة عندما يغوصُ بنا في فقه اللغةِ وفقه السياسة، وما إن يحسّ بتضجّرنا يمسح بيده اليسرى على لحيته ثم يشعل مذياع السيارة. نحن الآن على مشارف خور أبو عنجة، ودفوفُ مديح أولاد حاج الماحي تهزّ السيارة هزًّا، صوتهم الطروب يفتح فتوحاتٍ عظيمة على البروفيسور، وتجذبه إلى عوالم تظنّ أنّه لن يعود منها أبداً. البروفيسور عاشق لآل البيت، ومجالس الصالحين، أبهرنا ببرنامجه الإذاعي الشهير "من الشمائل المحمدية". كان كثير الأذكار والاستغفار، لسانه رطب بذكر الصّالحين وآل البيت والتدبّر في المعاني، محبّ للطّائف وصياد ماهر للقفشات، يضحك حتى ينحني بظهره إلى الخلف، ثم لا يلبث أن يرطب لسانه بهمسة استغفار. للبروفيسور نشاط علمي ودعوي واسع داخل وخارج السودان، وله مؤلفات ودراسات في التاريخ والفقه والسيرة النبوية والحضارة الإسلامية وتاريخ الشعوب، ومن أهمّ مؤلفاته "الناصر لدين الله العباسي" و "من شمائل الرسول" و "مشيخة العبدلاب وأثرها في حياة السودان السياسية والحضارية" . عمل محاضراً في جامعة الإمام محمد بن سعود بالرياض، ثم عاد إلى السّودان بعد زوال حكم الجنرال النميري، عمل عميداً لكلية الآداب بجامعة أمّ درمان الإسلامية في عهد حكومة الصادق المهدي وسرعان ما عينه مديرًا لمعهد أمْ درمان العالمي. تجاوز بفطرته السَّليمة الفهم القاصر لحدود الدين، تحدّى الأدعياء وحاور المتشدّدين، حارب الانتهازيّين وغفل عن السّفهاء. جاهر بالعداء عندما علم بأنّ رفقاء الأمس في الحركة الإسلامية ضاقوا ذرعًا بالحريات وينوون الانقضاض على السلطة. كان لدى البروفيسور شكوك كبيرة وملاحظات حول مشروع الإسلام السياسي في السّودان، وهذا الموقف لم يكن انطباعًا عابرًا وإنّما ثمرة بحوث ودراسات في تاريخ السودان وممالكه القديمة من مسيحية وإسلام وما أفرزته هذه الدويلات من تباينات متقاطعة في المجتمع السوداني، وتنوعٍ يحتاجُ إلى حكمة في إدارته. في إحدى الأيام طرحت على البروفيسور سؤالاً عابرًا عن عرَّاب المشروع الشيخ حسن الترابي، وبدلاً من أن يجيب عن السؤال، انبرى يحدّثني عن المناضل الجسور الشفيع أحمد الشيخ، أحد رموز الحركة الوطنيّة السودانيّة، وعضو نقابة العمّال العالميّة، حدّثني بإمتاع عن فصاحة الرجل وبلاغته الخطابيّة ومواقفه الرّاسخة التي قادته إلى حبل المشنقة فأعدم مع مشروعه. البروفيسور يحترم الترابي العالم الفقيه، لكن عندما يتعلّق الأمر بالسياسة نجد الرجل الماكر صاحب الحيل وخلط الأوراق كما اتفق، وهذا خلل فكريّ واضح كما يصفه. رفقاء الأمس دبّروا انقلابهم بليل واستلموا مقاليد الحكم تحت مسمّى الإنقاذ، مشروع أفقر الشعب السوداني وأذلّه، كان البروفيسور وقتها مديرًا لمعهد أمّ درمان العلميّ وما أدراك ما معهد أمّ درمان. هذا المعهد الذي ارتبط في مخيّلة السودانيّين بأحد أهمّ الشعراء المحدثين، وهو الشاعر التيجاني يوسف بشير الذي درس في المعهد علوم اللغة والفقه والفلسفة والشعر وتفوّق على أنداده وذاعت شهرته حتى أصبح اسمه مرادفاً للشاعر التونسي أبو القاسم الشابي، هذا الأمر جلب له الحسد من زملائه في المعهد، فرتّبوا له حفلة شواء فاتهموه أوّلاً بالزندقة والتجديف، ثم تمّ فصله من المعهد، مرِض بعدها مرضاً شديداً، وتعرّض لقهر مادي ومعنوي، ومات بشكل مأساوي. هذه القصة حدثت في ثلاثينيات القرن الماضي، ولكن يبدو أنّ روح التيجاني تحولت إلى لعنة ولم تغادر المعهد إلى أن تمّ إغلاقه وتحويل اسمه إلى جامعة القرءان الكريم، وهذه قصة سنرويها في المقال. في أحد الأيّام التقيت بزميلي الفاتح خالد داخل حرم الجامعة، اقترح عليّ زيارة البروفيسور في المعهد لنبارك له بالمنصب الجديد، رفضت الفكرة جملةً وتفصيلاً، فتهنئة القريب على اعتلاء منصب عيب كبير عندنا، تصل إلى مرحلة الجنحة العائلية، تهمة تملّق يتناقلها الناس على طول مجرى النيل شمالاً. بما أنّ الأخ الفاتح محلّ ثقة رافقته بدافع الفضول لزيارة قلعة التيجاني وتهنئة القريب لا سمح الله. عزل البروفيسور من إدارة المعهد بعد وقت وجيز من وصول رفقاء الأمس إلى سدّة الحكم، لأنّ روح التيجاني المعذبة لا تقبل للشرفاء نفس المصير، ومن غرائب الأمور أنّ البروفيسور فصل بذات الطريقة التي طرد بها التيجاني من المعهد وإن اختلفت الأسباب. البروفيسور رجل أكاديمي منضبط وعالم سمح النفس، يحبّ الفلسفة ويعشق التاريخ والموسيقى ودفوف الطرب، لا غرابة فقد شذب وجدانه في محراب التصوّف والجمال. بدأت القصة في صيف العام 1990. كانت حرب الجنوب مستعرة تحت راية "الجهاد" وكانت جبهة الإنقاذ في أشدّ صلفها وجبروتها، ولسان البروفيسور يلهج بالدّعاء، متعوّذًا من شياطين السياسة وأبالسة المال. كان يعرفهم جيّدا. وصل البروفيسور إلى مكتبه في الصباح، فوجد أنّ اتّحاد الطلاّب قرّر إغلاق المعهد وإلحاق طلاّبه بحرب الجنوب. أصدر البروفيسور فورًا قرارًا يقضي بفصل كلّ طالب يتغيّب عن الدراسة. اعتبرت السّلطات العليا هذه الخطوة تحدّيًا سافرًا وتجاوزًا للخطوط الحمراء، لم تمرّ إلاّ بضع ساعات حتى استلم البروفيسور استدعاءً من راعي التعليم العالي الجنرال الزبير محمد صالح نائب الرئيس البشير. وصل البروفيسور إلى مبنى القيادة العامّة للجيش. طلب منه الجنرال إعادة الطلبة المفصولين وإغلاق المعهد فورًا وذكّره بأنّ السّلطة في يد الطلاب الآن. رفض البروفيسور طريقة حديث الجنرال وتمسّك بموقفه. سحب الجنرال ورقة من على الطاولة ومدّها له على طريقة "الأفلام البوليسية". كانت عليها كلمتان: اكتب استقالتك. كتب البروفيسور استقالته وغادر مكتب الجنرال. كان ذلك اليوم من أكثر الأيام حزنا على البروفيسور، ليس بسبب المنصب، ولكن لما آل إليه حال التعليم والبحث العلمي في السودان تحت رعاية جنرالات الجيش وخرّيجي المدارس العسكريّة. عاد البروفيسور إلى وظيفته السّابقة أستاذًا بجامعة أمّ درمان الإسلامية. لكن يبدو أنّ الوقت كان قد تأخّر. بدأت حملة التضييق، بدءًا بوظيفته في الجامعة، ثمّ إمامته للمصلين بمسجد الحارة 14 بأمّ درمان، ثم إيقاف برنامجه الإذاعي " الشمائل المحمدية"، جعلوه غير ذي صلة بالمحاضرات والندوات العلمية. ضيّقوا عليه في مصدر رزقه، لكنّهم فشلوا في قهره ماديًّا ومعنويًّا. حزم البروفيسور حقائبه وجمع أولاده عائدًا إلى مقرّ هجرته الثانية، أستاذًا في جامعة الجوف بالمملكة العربية السعودية. سيعود البروفيسور إلى أرض الوطن مضطرًّا بعد سنوات طوال لإلحاق أبنائه بالجامعات السودانية، وجد أنّ رائحة الفساد تزْكي الأنوف، وأمواج من الفقراء والمتذلّلين ورفقاء الأمس قد أمعنوا في طغيانهم. ظلّ يرسل رسائله من عمق أسرار السنة النبوية وورع أهل البيت وزهد العلماء، كانت رسائل إشاريّة لطلاّبه ولعلماء الأمّة الذين استكان معظمهم لشطر الإنقاذ وأحالوا الدّين دكّانًا لبيع وشراء الذّمم. تنفجر شمس الصباح كعادتها خلف جبال أمّ درمان الحمراء، تهرع صفية مع نجمة الصباح الأولى لملء القدر بالماء الساخن، ثم تصبّ الشاي، وتعبء السراميس بالحليب، وبناتها يوزّعن "اللقيمات" على السراميس الكبيرة. سيارة البروفيسور في طريقها إلى كشك بائع الصحف، علّه يجد قرّاءً جُدداً للعناوين. سيعود إلى منزله مساء وسيجد أصحاباً جُدداً انضمّوا إلى ضيوف الأمس، طلاّب علم ومرضى وعابري سبيل، ومريدين. ينفق كلّ ماله في إطعام من تواجدوا في الحوش الوسيع طمعا في برٍّ لا ينقطع، لا يقبل عطية زائر أو كسوة مريد أو جنيهات مادد. بعض الأخيار من طلاّب وأساتذة لم ينسوا فضل البروفيسور، حرص عدد منهم على زيارته في منزله، كالشيخ الياقوت وأولاد حاج الماحي وأولاد الشيخ البرعي، وخفيفي الظل والمتفكهين ونجوم كرة القدم والمريدين. من واقع معرفتي بالبروفيسور وحبّه لكرة القدم، قمت بتوجيه دعوة لنجم فريق المريخ زيكو وبعض اللاعبين لتناول وجبة الغداء في منزل البروفيسور. وبعد أن نزل من المنبر وصل إلى المنزل مرحّبًا بالضيوف، فرغنا من الأكل وشرعنا في تحفيز اللاعبين الذين كانت تنتظرهم مباراة صعبة أمام فريق الأهلي المصري وكان عليهم المغادرة عشيّة اليوم التالي إلى القاهرة. حدّثهم عن ثقافة الانتصار وعن المزاج المصري وحيل المصريين واستماتتهم من أجل الفوز. كان متحمساً ومشجعاً محايداً، ومحبًّا للحياة. ينتقل من منبر الجمعة بعد أن يعلِّم الناس أمور دينهم إلى منبر الحياة والمؤانسة ومعاش الناس ومشاغلهم اليومية. يتقاسمُ معهم الهموم والمتع وحبّ الخير. دائما ما يسأل البروفيسور: لِمَ يزبدُ رجل الدين؟ ولمَ يُرعِدُ الإمام ويتجهّم العالم في وجه زوجته وأبنائه وطلابه؟ بضاعة بور وغير خالصة. قبل أن نغادر منزل البروفيسور همس زيكو في أذني: " انتا الناس ديل بشوفوا الكورة؟!!". بعد رحلة علميّة مضنية خلص البروفيسور إلى حقيقة بسيطة "مقدرة السودانيّين على بناء دولتهم مشروطة بنجاحهم في إدارة التّنوع وجعل المواطنة أساساً". في كتابه "دولة العبدلاب عبقرية سودانية" تنبّأ البروفيسور منذ وقت مبكّر وبشكل غريب بقيام شراكة عسكريّة وسياسيّة أسّست لها تجربة حدثت في العصور الوسطى، منذ التحالف التاريخي بين سلطنة الفونج المسيحيّة ومشيخة العبدلاب المسلمة، الذي أدّى في نهاية المطاف إلى ميلاد الدولة الحديثة. حدث ذلك قبل وصول الغربيّين إلى المنطقة، حتى ذلك الوقت لم يكونوا يعرفون عنها إلاّ النّذر القليل، فالسودان لم يعرفه المؤرخون معرفة علمية دقيقة إلاّ بعد الغزو التركي المصري وسقوط دولة العبدلاب. رغم شحّ المصادر التاريخية حول دولة العبدلاب وندرة الدراسات الموثقة إلاّ أنّ البروفيسور بذل جهدًا علميًّا مقدّرا في التّقصي والتدقيق في كتب الرحّالة والمراجع العربية مثل ابن عبد الحكيم والبلاذري والمسعودي. هذا المرجع عبارة عن وثيقة تاريخية تثبت أنّ الهجرات العربية إلى السودان لم تكن مرتبطة بالإسلام كما يدّعي العروبيّون الذين أوصلوا نسبهم العائلي بالعباس وعثمان وعلي دون أن يرفّ لهم جفن، ودون اعتبار لملّة أو جنس أو دين آخر. ذهب البروفيسور في دراسته إلى أبعد من ذلك إذ يقول " لقد عرف العرب هذه المناطق قبل الإسلام وذلك بغرض التجارة والبحث عن الذّهب والعاج والبهارات وغيرها". ليلجم غلاة الإسلام السياسي حجرا. بعد هجرتي من السودان وخلال العقدين الأخيرين، لم ألتقِ بالبروفيسور إلاّ في زيارات متباعدة، علمت أنّه فقد بصره، ليس بسبب المرض أو عامل السن. تبادرت إلى ذهني قصّة كان يرويها لنا بنفسه إنّها "لهبة" الجاز، ذلك القنديل الذي أنار له طفولته وأضاء له صباه في سنوات مظلمة وبعيدة، كان يطالع اللوح المسطور ويقرأ الحديث وكتب الفقه على ضوء "رتينة" قنديل دخان سكن عينيْ البروفيسور منذ أربعينيات القرن الماضي. تعمى القلوب التي في الصدور. آخر مرّة التقيت به وجدت ابتسامته صافيةً وضحكته مجلجلةً، يسأل عن أخبار البلد كالغريب. البروفيسور يا سادة لم تهزمه الإنقاذ، إنّما هزمه المرض، رحل عنّا قبل أيّام مطمئنّ النفس، غرّ الميامين، ليلتحق برفيقة دربه السيدة صفية، التي لم تكن تتنفس بشكل طبيعي إلاّ في زحمة من الناس . إنّ الوعدَ حقٌّ وإنّ الأجلَ قريبٌ ولا نقول إلاّ ما يرضي الله.. {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}