إذا كانت إشاعة الرذيلة بغرض التكسُّب أقدم مهنة عرفها التاريخ كما هو شائع، وعذراً على المقدمة الفظة، فإن الجنس من أعمق الغرائز التي يحتاج الناس في تلبيتها إلى مساحة واسعة من الحرية ظلت على مدى تاريخ بني آدم وبنات حواء شديدة الضيق بسبب الأعراف والعقائد وليس بدافع الحياء مجرّداً، فالحياء على الأغلب نتاج الأعراف والعقائد وليس فطرة خالصة كما يذهب البعض. ولكن العقائد - ومن ورائها الأعراف - ترى أن الغرائز خُلقت لتنضبط وليس من أجل أن تُلبَّى كاملة، ولعل تدخُّل البشر استجابة لأعرافهم وتفسيراً لعقائدهم لم يستهدف غريزة مثلما فعل مع الجنس، وللناس في ذلك حجج كثيرة أشهرها الخوف على اختلاط الأنساب وانتشار الأمراض والسموّ بسمعة الإنسان فوق مستويات بهيمية متدنية في السلوك والممارسة. وإذا كان العلم قد ابتدع حديثاً من الوسائل الصحية والعلمية ما أبطل حجتَيْ اختلاط الأنساب وانتشار الأمراض، وطوّحت الأفكار والفلسفات الحديثة- استناداً إلى مادية الحياة الطاغية في المقام الأول- بنظريات السمو الإنساني عندما يرتبط بالإفصاح عن الغرائز حتى غدا ذلك السمو في تلك المقامات كالأوهام، فإن لقلعة الجنس حرّاساً لا يزالون صامدين في الدفاع عن حرمات بات ما يتهدّدها يسبح في الأثير بما يجعل مهمة الرقابة عليه أشبه بمحاربة طواحين الهواء. في اليابان، وعلى مدى تاريخها المحفور في خواطر العالم، ظلت فتيات الجيشا إشارات موحية ببلاغة لعالم الجنس هناك، وفي هذا جانب من الصواب وجوانب من الافتراء في الوقت نفسه، فالجيشا اللائي كن ينشأن ويعملن في قصور الأمراء والنبلاء كانت لهن من المهام ما قد يرقى بهن أحياناً فوق منزلة الجواري في التراث العربي. ورغم كل ما يلف سمعة الجواري في تراثنا من تحفظات وشكوك فإنهن لم يكن مرادفاً مباشراً للجنس الرخيص قدر ما كن ضحية له، وبالمثل فإن الجيشا في يابان الأمس شيء وفتيات الليل شيء آخر، ولعل جيشا اليابان حالة أشبه بتمريرات كثيرة لصور من الجنس يغض المجتمع النظر عنها في كل مكان وهي ليست مقبولة صراحة في أعرافه وعقائده، ولا أظنني مبالغاً إذا قلت إن الراقصات والممثلات في أدوار الإغراء صورة أكثر التباساً في مجتمعاتنا من فتيات الجيشا عندما يتعلّق الأمر بموقفهن جميعاً من الجنس ونظرة المجتمع. بعيداً عن الجيشا ظل الجنس في اليابان موجوداً في صورته الصريحة المتجلية في البغاء، ولم يكن بغاء اليابان بِدعاً إذا ما قورن ببغاء الغرب نفسه، فالمجتمعات الغربية كانت محافظة، وأحياناً شديدة المحافظة، حتى أوائل القرن الماضي باستثناءات معدودة كالسويد على سبيل المثال النادر جداً للحرية الجنسية في الغرب قبل الفترة من بدايات وحتى منتصف القرن الماضي. ولا ريب أن البغاء لا يزال موجوداً إلى اليوم في اليابان متخذاً من صوره الحديثة كافة أشكالها تماماً كما هي في الغرب، ولكن الأدعى إلى النظر في مقام الحرية الجنسية ليس موقف اليابان من البغاء بقدْر موقف اليابانيين واليابانيات من انفتاح المجتمع على النمط الغربي في العلاقات بين الجنسين، فليس غريباً أن تنشأ علاقة بين فتى وفتاة فيقيما معاً قبل أن يتزوجا وربما دون أن يكون في نيّة أيٍّ منهما الزواج يوماً ما. إزاء ما سبق فإن ارتداء اليابانيات اليافعات للميني جيب وما فوقه من صور الانطلاق من قيود الملابس المحتشمة لا يمكن النظر إليه على أنه سبب للتحرُّر الجنسي، فهو على الأرجح أظهر الصور لذلك التحرُّر. وأخطر من الميني جيب وغيره من ملابس الفتيات - في الإشارة إلى تحرُّر المجتمع - الصرعات الغربية في صبغ الشعر والوشم والخواتم تخترق أعضاء الجسد المثقوبة، وباختصار سائر أشكال النمط الأمريكي بامتياز في مختلف جوانب الحياة المظهرية للشباب من الجنسين. وإذا كنّا ننعي على شبابنا – من الجنسين أيضاً – أنهم يأخذون من الغرب المظهر ويتركون الجوهر، فإن الجناس والطباق البديعين لا يمكن اجترارهما للأسف مع شباب اليابان، ليس لأنهم يأخذون من الغرب جوهره أيضاً بل لأنهم ممن يشارك – وكثيراً ما يسبق – الغرب في ابتداع ذلك الجوهر وصياغته وترويجه. في روحانيات اليابانيين الكثير مما يجعلهم أقدر على وأولى بمهمة الوعظ الأخلاقي والتنظير حول ذلك الأمر من أيّ منظِّر متبرِّع من الخارج، لكن اليابان تبدو سادرة في غيِّها المظهري والجنسي بثقة تضاهي ثقة الأمريكان أنفسهم بحيث تصبح مهمة أي منظِّر يبتغي الإصلاح على الطريقة التقليدية من الصعوبة بمكان عظيم، حتى إذا كان ذلك المصلح يتحدث بلغة ألِفها اليابانيون لقرون طويلة ولا يزال صداها طنَّاناً في أدبيّاتهم إلى اليوم. يبدو جنس اليابان اليوم - أكثر من كونه متأثراً بالنمط الغربي – ضرورةً (ضريبة؟) للنمط الرأسمالي في الحياة، وهو أمر خطير إذا صحّ لأن قيماً أخلاقية ستصبح حينها رهينة لممارسات اقتصادية، فيغدو الاقتصاد موجِّهاً للأخلاق لا العكس كما ظل يحلم ويروِّج المصلحون على مدى التاريخ ( ونستثني ماركس وأنصاره). وفوق الرأسمالية الكاسحة، فإن العولمة باتت على ما يبدو المرحلة الاقتصادية ( بل والثقافية) التالية التي تجعل نمط الحياة المتحرّر كالضرورة التي لا مناص منها في نظر العالم.. حتى البقاع التي لا تزال في طور النمو منه، وذلك أخطر ما في نموذج التحرر الجنسي لليابان من قراءات. ولكن المفارقة الأكثر حضاً على الاندهاش هي السلوك الياباني الذي لا يزال مصرّاً من جهة أخرى على الاحتفاظ بتقاليد التهذيب في حدودها القصوى كما تنص التقاليد العريقة لديهم، وكانت القراءة الأدنى ترجِّح أن يكون التحرّر من سطوة التقاليد في هذا الباب مرادفاً بل سابقاً للتحرّر الجنسي، كون فرط التهذيب يبدو بكل المقاييس زائداً على الحاجة العملية في المعاملات اليومية للعصر الذي أبرز سماته السرعة، فضلاً عن دواعي الجرأة في الثورة على القديم لمجرّد أنه قديم. هذا البريد الإلكتروني محمي من المتطفلين و برامج التطفل، تحتاج إلى تفعيل جافا سكريبت لتتمكن من مشاهدته