تتطرق اليوم (كوكتيل) إلى أغنية من أغاني الزمن الجميل رائعة الشاعر الكبير عبد الرحمن الريح (ياحمامة مع السلامة ظللت جوك الغمامة) حيث تحور اسم الأغنية فيما بعد من الاسم الأصلي والأول الذي كتب به عبد الرحمن الريح الأغنية وقام بتلحينها حيث كان الاسم هو (رسالة من الخرطوم للقاهرة).. قصة الرسالة وترجع قصة رسالة من الخرطوم إلى القاهرة هو أن شاعرنا الكبير عبد الرحمن كان قد شاهد فيلماً جديداً لتوه في بواكير أربعينيات القرن الماضي وجاءت بطولة الفيلم الذي جاء باسم (يوم سعيد) للممثلة فاتن حمامة حيث كانت بارعة الجمال وهي في قمة شبابها ونجوميتها، وقد أدت أداءً قيل إنه كان متميزاً يشبه تماماً جمالها ومفاتنها حيث إنها تميزت في ذلك الزمان بين زميلاتها الممثلات بصوت مميز يمكن تمييزه ومعرفته بين عشرات الأصوات لما يحمله من نبرة رخيمة ورقيقة، بجانب أدائها الأنثوي الرقيق. مسقط ميلاد الأغنية الفيلم حضره الشاعر في سينما (برمبل) بأمدرمان وقد كان حديث بالمدينة وأرجائها فلم ينم عبد الرحمن الريح ليلته تلك بعد نهاية الفيلم، حيث جلس يجتر ذكريات ومقاطع حمامة الرقيقة والجميلة، فبدأ فوراً في كتابة أغنيته التي اسماها بعد نهاية الفيلم مباشرة (رسالة من الخرطوم إلى القاهرة) فبدأها قائلاً (ياحمامة مع السلامة ظللت جوك الغمامة) في إشارة لتوديعه لها بعد نهاية الفيلم. ويستطرد ود الريح في وداعه لحمامة قائلاً بكل شفافية واريحية شعرية جارفة (سيري في جوك المعطر-وأنشدي شعرك المسطر ).. الناظر إلى تسمية القصيدة بالاسم الأول الذي اسماه لها شاعرها برسالة من الخرطوم للقاهرة يدرك كمية الوعي الثقافي والإبداعي للريح وذلك لأن العنوان أعلاه فقط يمكن أن يمثل دبلوماسية ثقافية فنية بين البلدين فضلاً على أنه اختار مفردات في قمة الأناقة اللفظية واللغوية تصلح تماماً أن تمثل ثقافة بلد تجاه بلد آخر. ثقة لا تحدها حدود عبد الرحمن الريح مشهود له وسط أقرانه بأنه لايختار من الأمور إلا أفضلها وأجملها بجانب ثقته العالية في إمكاناته الفنية والإبداعية فقد أثبت ذلك وهو ابن 14عاما عندما كتب قصيدة (مارأيت في الكون ياحبيبي أجمل منك) وتجاوز كل الفنانين الموجودين وذهب بكل ثقة واعطاها للعملاق محمد عبد الكريم الشهير ب (بكرومة) الذي كان لا يجامل في اختيار الأعمال فقام بتلحينها وأدئها كأفضل مايكون الأداء في أحد المنتديات الثقافية وغنى معها (جاني طيفو طايف) أيضاً لود الريح. ومن الطرائف أن أحد الحاضرين قال لكرومة (سيبك من غنا الشافع الصغيرون دا وغني لينا سهران ياليل) فضحك كرومة وقال( سهران ياليل) هي أيضاً كلمات الشافع دا وهذا يؤكد أن الريح ولد عملاقاً في بحور الكلمة وجزالة المفردات، بعد فترة ليست بالطويلة أصبحت أغنية (ياحمامة مع السلامة) مسك ختام أي حفل من الحفلات فبمجرد أن بدأ الفجر يرخي سدوله وتنسدل خيوطه يقوم الفنن بغناء ياحمامة مع السلامة وهي تعني بلغة اهل الموسيقى ب (القفلة) ونهاية الحفل على هذا النهج سار عدد من الفنانين بتحديد أغنية لختام الحفل ونهايته فكان وردي عندما يغني أصبح الصبح هذا يعني نهاية الحفل وأيضاً سيد خليفة عندما يغني (أودعكم) يعني الختام فتلك كلها قواعد فنية اقتبست من جماليات ود الريح. كيف غازل ود الريح فاتن بصورة بلاغية؟ الأغنية جاءت مهرجانا حافلا بفن الحبكة الشعرية والإبداعية لكبار الفنانين والمبدعين فانظر إلى جمال التورية عندما يغازل ود الريح فاتن ويقول (الجمال ياحمامة (فاتن) فيهو ألوان من المحاسن.لأخوة المصريون استقبلوا القصيدة بكثير من الاحترام والتقدير ونشرت في عدد من صحفهم و مجلاتهم الفنية فكما قال شيخ النقاد الفنيين الراحل المقيم ميرغني البكري إن المصريين احتفلوا أيما احتفال وبشيء من التقدير والاحترام بالأبيات القائلة ( أسأليهو عن المحبه – وعن فؤادي الذي احبه – ليتو يسأل عن الاحبه – مره في عمرو يا حمامه) الشاهد بأن الغالبية العظمى من إيقاعات الحقيبة كانت (التم تم) بجانب بعض الإيقاعات الصوفية و(الروك ا ند رول )في مرحل متأخرة ولكن إبداع عبد الرحمن في تلك الأغنية التي نظمها في هذه الفنانة المصرية المبدعة جاء بإيقاع (العشرة بلدي) أغنية سودانية مركبة على إيقاع عشرة بلدي دون أن تفقد سودانيتها ودون أن يؤثر (العشرة بلدي) على لونيتها وفي ذلك عبقرية لدبلوماسية فنية في فن تقديم الأعمال المشتركة. فاتن.. سيدة الشاشة العربية الأغنية بعد أن غناها كرومة قدمها أولاد شمبات وغناها بادي وأخيراً قام بترديدها بمستوى جيد الفنان جمال النحاس. لعبد الرحمن الريح عبقرية قوية في شكل اختيار الكلمات واختيار من يغنيها فمن السهل أن تكتب العمل ولكن من الصعب أن تجد من يتناسب معه ذلك العمل ويقدمه بالشكل المطلوب وهنا تظهر عبقرية ود الريح فهو إما أن يعطي عمله لفنان كبير ومعروف تتوفر فيه معايير عكس العمل بمستوى جيد كما فعل ذلك مع كرومة وسرور وأما الثاني فهو الأخطر والذي قل أن يوجد في شاعر آخر يتميز بذاك الأسلوب وهو أن الريح عندما يقوم بالتفحيص والتمحيص ومن ثم يقوم بإهداء عمله لفنان ناشئ وجديد تأكد أن ذلك الشبل الناشئ سيكون بعد فترة من أكبر الفنانين، فقد قدم أعمالاً للفنان محمد عمرابي الذي وجده يدندن في الحي فسطع نجم عمرابي الذي قدم (تودعني وأنا مشتاق ليك كان بدري عليك) إلا أن عمرابي توفى في مقتبل شبابه بعد ذلك وجد شاباً أنيقاً صغيراً فقدم له عدداً من الأعمال فكان ذلك اليافع هو الجابري ضف إلى ذلك التاج مصطفى الذي غنى له كثيراً من الأعمال منها (الملهمة) و(ياروحي انصفني) أما حسن عطيه فغنى له (خداري) و(لو إنت نسيت) و(ياماري عند الأصيل) جميعهم كانوا في بداياتهم وريعان شبابهم ولكن عندما كتب في فاتن حمامة ياحمامة مع السلامة في بداية الاربعينيات ولأول أفلامها كيف عرف أنها ستكون سيدة الشاشة العربية في المستقبل وهو المهتم بالغناء قبل الدراما ؟؟ رحم الله شاعرنا الكبير عبد الرحمن الريح ورحم سيدة الشاشة العربية فاتن حمامة.