فالعبارة تقال عند الانتقال من مكان إلى مكان، من ضفة إلى أخرى، من وجود إلى وجود، ولكن لا مكان ولا وجود ولا ضفة لنا ولا ضوء ولا نفق. ليس أمامنا إلا الأفق الممتد والأنجم والشموس والأنوار. علينا إن نوجد المكان والضفة والوجود. علينا أن نوجد الوطن والشعب والمستقبل. وطن لم يتأسس بعد ولم يخرج من ثقافة القبيلة، قبيلة العرق والمجموعة وقبائل الجهويات والأمكنة وقبائل الأحزاب والأيديولوجيا وقبائل الوظيفة. يتقاتل البني عامر والنوبة والهدندوة، ويتقاتل التعايشة والبني هلبة، ويتقاتل الفور والزغاوة، يتقاتل الجميع ضد الجميع فى كل مكان يتقاتلون، لا على قيم الوطن، وإنما قيم القبيلة والانتماء والقتل على الهوية والانتماء وصوت الكلمات وطبيعة اللغة. يتقاتل السياسيون على (من) يسار أم يمين، طائفيون أم ليبراليون، لا يتقاتلون على (كيف وماذا)، الحرية والنظام والديمقراطية. لا يتنافسون على القيمة والمعنى والتنمية. يتقاتلون على اللافتات والعناوين والشعارات على الأقمشة المهترئة والبنرات المضيئة. يتقاتل المهنيون لا على خدمة الإنسان، وإنما على مفخرة الكاكي واللاب توب والأبرول وعباءة القانونيين ولاب كوت الطبيب، وكل يختبئ خلف جماعته يهتفون بصوت واحد ويصرخون في صولات العبث. هذا إرث بالغ التفاهة والهشاشة والهزال، يفارق معهود الأوطان ذات الشعوب المتنافسة على النماء والخدمات والثقافة، الذاهبون إلى القانون في صراعهم ونزاعهم حول قضاياهم الخاصة، فلا أرض للقبيلة ولا حاكورة لفخذ وبطن. تتصارع فيه الأحزاب على وعي الناس وإدراكهم ومصالحهم لا على تجهيلهم واستغبائهم واستغفالهم واستخدامهم لمصلحة الحزب لا لمصلحة الوطن. أوطان لم تصمم ليحكمها نظام توحد يظل أبداً، وألا تقاتل جيشها وجنجويدها وسحل إنسانها وانفجر كل شيء. أوطان لا تبحث عن لقمة خبز وضوء لمبة ولتر وقود وأمبولة دواء وحبة بنادول، فهذه بديهيات لا يُسأل عنها أحدٌ، ولا يطلبها أحدٌ لأنها بالأصل موفورة. نحن وطن لم يولد بعد، ولم يؤسس ولم يخرج من خانة العدم. لا نبحث عن عبور من ضفة إلى أخرى عبر (نفق)، وانما نبحث عن وجود وتأسيس في (الأفق)، نبحث عن تأسيس اجتماعي يخرجنا من فخاخ الجهويات والإثنيات والقبائل، نبحث عن تأسيس سياسي يخرجنا من متاهة الأحزاب وضعفها وأنانيتها وغبائها واستسهالها إلى أحزاب راشدة، واعية، مدركة للقيمة الوطنية ولمعنى الإنسان، تقاتل له بالبرنامج والخدمات لا بالتآمر والعبارات الخواء وخفة العقل، نحتاج إلى تأسيس اقتصادي يخرجنا من الهرولة خلف حافلة مهترئة وصف خبز فاسد وصفوف بنزين ما زالت سفنها تجول في أعالي البحار واقتصاد الربع كيلو وقدِّر ظروفك ومشاريع كشك الطعمية، فالإرض حُبلى، والنيل يجري، والثروات تشكو سوء وعطالة الاستثمار. نحتاج تأسيساً قانونياً يشعر فيه الناس انهم لا يحتاجون إلى عصبية قبلية لاسترداد حقوق، فهم في القانون سواء وفي السلطات نجازة لقرارات القضاء، نحتاج تأسيساً لجهاز الدولة وخلق آلية تخدم الانسان بوافر الكرامة، لا تستحقره ولا تهينه ولا تستغله وتنتهكه، نحتاج تأسيساً يضع الإنسان المواطن سيداً وحاكماً لصوته قيمة، ولشكواه صدى، لا يخيفه زي ولا ترعبه بندقية. الضوء ليس في آخر النفق. فالأفق يمتد بلا حدود. ليس واجبك وحدك، فعليك ان تمضي في معاش الناس وأشيائهم. ولكن الوطن يصنعه وعي الجميع، يصنعه تخلي الجماعات والمجموعات عن أنانيتها وذاتيها. يصنعه نزول المثقفين من أبراجهم ليخالطوا الناس ويفككوا أزمات المجتمعات، يصنعه أن يخرج الناس من خندق القبيلة والجهة في الصراعات التافهة ليبحثوا عن وطن أوسع وعيش أرحب، يصنعه أن يخرج الإعلاميون من ترديد العبارات والكلمات والتريندات التافهة إلى صناعة الموقف وتوجيه الرأي وقيادة الإدارة لما يصنع الإوطان، يصنعه أن يتخلى الساسة بجميع اتجاهاتهم عن بعض ما يملكون وما يرون ليقتربوا مما يراه الآخر، فهذا الوطن لم يتأسس بعد. أسسوه أولاً ثم تصارعوا فيه كيف شئتم، يصنعه إن لا يتفرّج الشباب وينتظروا الآخرين ثم يعمدوا لهتاف وصراخ، عليهم أن ينتزعوا حقهم في الوجود بأفكار وتنظيمات وعمل، فالمستقبل كله هم. ليس ثمة نفق، فالفضاء رحب ولنا سقف السماء واتساع الأرض وكل شئ هنا الإنسان والغد وعظيم الأمنيات. نحن من علينا أن نختار وأن نؤسس وأن نوجد من العدم.