وكأنما يتعمد القدر التلذذ بحالة الانتظار الطويل والممل قبل أن يمنح المنتظرين مرادهم، الجميع ينظر نحو عقارب الساعة في انتظار الواحدة والنصف ظهر الخميس الموعد المضروب لتوقيع فرقاء الجنوب ومجموعاتهم بالأحرف الأولى على الاتفاق الذي من بعده يمكن القول باكتمال إحياء اتفاقية أغسطس 2015م المؤودة عمدا. تأجيل أول المؤشرات الأولية تقول باقتراب الحلم الجنوبي والعرس الخرطومي، فالوساطة من لدن السفراء والعسكريين يرتدون بزاتهم السوداء الأنيقة في زي موحد لا يخلو من تعمد. وفود المجموعات الجنوبية تتوافد على مقر المفاوضات بسوبا والكل يرتدي أفخر الثياب استعدادا للحظة الميمونة.. أولى بشائر الفرح هلت بوصول نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الاستثمار رئيس حزب الأمة مبارك الفاضل ودخوله (صالون) كبار الزوار، تبعه بعد فترة ليست بعيدة وزير الصحة بحر إدريس أبو قردة.. التحايا و(السلامات) يتبادلها الجميع، والمعنويات إيجابية لكنها ارتفعت بشدة بعد أن تواترت الأنباء عن إعلان الرئيس سلفاكير ميارديت قبوله التوقيع عقب أن وجهت بلاده رسالة للوساطة في 17 يوليو تعتذر فيها عن التوقيع على الاتفاق لجهة أنه لا يتسق ومطالبها وملاحظاتها، حينها أعلنت الخرطوم بحسم أن التوقيع سيكون بمن حضر، لتنسخ موافقة الرئيس سلفاكير أي رفض، ويجلس الجميع ممنيا نفسه بالاحتفال. الواحدة والنصف تقبل بسرعة غير معهودة، ولا جديد تحمله اللحظات.. تسريبات من الوساطة تلتقطها أذن الإعلاميين والصحفيين بأن التوقيع تاجل للخامسة مساء.. خطوة التأجيل المعلن لم تجد مساحة لإثارة القلق، فالمبرر ظاهريا كان وصول الرئيس الضيف عبد الفتاح السيسي وأن وزير الخارجية ضمن وفد استقباله، لذا كان لا بد مما ليس منه بد بالتأجيل. انتظار واجتماعات (الوفود تخرج).. هكذا تحدث أحدهم بصوت عالٍ، ليلتفت الجميع صوب البوابة حيث الجاحفل البشرية تهم بالخروج من البوابة الإلكترونية التي يعلو صوتها كلما مر عبرها كل ما هو (حديدي). الاندهاش والحيرة حفرت نفسها في وجوه الصحفيين، قبل أن يضحك أحد أعضاء الوساطة منبها إلى أنه موعد الغداء، ليضحك الجميع ويتبدد شبح الخوف. الوفود تعود مرة أخرى إلى قاعة التفاوض. السكرتارية الوسطى تسرع في نقل بعض اللافتات هنا وهناك، و(السوداني) ترصد من على البعد، عبر الحاجز الأمني البشري، إجراءات الاختبار للمايكرفونات في قاعة التوقيع، ليكتمل الإحساس بأن التوقيع قادم لا محالة. وفد من مجموعة المعتقلين السابقين يلج إلى القاعة الملحقة بقاعة التفاوض.. دينق ألور يبتسم للجميع ويرحب ببشاشة بكل من أقبل عليه يصافحه وإلى جواره كوستا مانيبي قبل أن يتواريا عن الأنظار في صالة كبار الزوار. لا يمضي وقت طويل قبل أن يبرز وفد التحالف د.لام أكول وحسين عبد الباقي والجنرال توماس شريلو وقبريال شامسون، ليلحق لام اكول وشامسون وتوماس شيرلو بدينق الور وكوستا مانيبي. وما هي إلا لحظات حتى كان موكب رئيس المعارضة الجنوبية المسلحة د.رياك مشار قد وصل بمعية رئيس اللجنة الأمنية أنجلينا تينج وبقية أعضاء الوفد يستقبلهم الأمين العام للحركة تينقو بيتر ورئيس لجنة التعبئة والتنظيم أقوك ماكور، ويلحق الجميع بذات القاعة التي تضم وفد مجموعة المعتقلين السابقين والتحالف. مصادر (السوداني) أكدت أن حضور الوفود تباعاً لم يكن عبثاً، وإنما لعقد اجتماع بين المجموعات الثلاث بهدف توحيد موقفهم التفاوضي وتضمين ملاحظات مشتركة حول الوثيقة النهائية التي سلمتها لهم الوساطة، مؤكدة أن الاجتماع الحالي امتداد لاجتماع مرحل من الليلة السابقة استمر إلى الساعات الأولى من فجر يوم التوقيع. المفاجأة غير السعيدة عقارب الساعة تتجاوز الخامسة والنصف ولا شيء جديد، الإحباط والخوف يسيطر على ملامح الجميع بلا استثناء.. السادسة إلا ربع يخرج فجأة د.مشار وامتعاض لا تخطئه العين يسيطر على ملامحه، تتبعه أنجلينا بصمتها الغامض، وبلا مقدمات يطالب أعضاء البروتوكول بصوت مرتفع أن يحضروا مسؤولة للتعبئة أقوك ماكورن ليقف الجميع خارج المبنى إلى جوار سيارات موكب مشار.. همسات بين مشار واقوك، تعقبها هزات متتالية من رأس الأخير تنم عن استيعابه لما قيل له من توجيهات، قبل أن يستدير نحو الصحفيين ويعلن عن مؤتمر صحفي لحركة مشار. على درجات السلم في ذات المكان الذي غادرت من أمامه عربات مشار، أعلن اقوك ماكور أن حركته على استعداد لتوقيع الاتفاق السياسي وأنها حضرت لذلك لكن وفد حكومة جوبا رفض التوقيع، وأنهم كحركة أخطروا الحكومة السودانية بملاحظاتهم وتلقوا وعدا بتضمينها، مشيراً إلى أن حركته ليس لديها ما يمنعها من التوقيع وأنها في انتظار الوساطة التي أخبرتهم بتأجيل التوقيع بالأحرف الأولى. الأرض تميد بالجميع، وشبح انهيار المفاوضات يبرز ساخراً في الأفق، والعيون تبحث عن الوسطاء ليقطع الطريق على تسلسل الأفكار وتراكم الإحباط وصول وزير الخارجية الدرديري، ليعلن عضو الوساطة السفير جمال الشيخ عن مؤتمر صحفي للوساطة بقاعة التفاوض. الجميع يركض نحو القاعة، ولا أحد يريد أن تتجاوزه التفاضيل أو تسقط من ذاكرته ما سيقال، الكل يلهث صوب المعلومات بنهم صحفي واهتمام إنساني خالص، فالجنوب ما يزال جرحا لم يندمل. ماذا قالت الوساطة؟ الدريري يجلس في المنصة وإلى جواره جمال الشيخ وكلاهما تبدو عليهما ملامح الإعياء والتعب. يبتدر الحديث الوزير الدرديري بلا مقدمات، ويلج إلى الموضوع كاشفاً عن تسلم الوساطة السودانية لخطاب يوم 17 يوليو من حكومة الجنوب تخطرها بالاعتذار عن التوقيع في الاتفاق، وأنهم كوساطة بناء على رفض جوبا قرروا مواصلة البرمجة المعلنة بالتوقيع بالأحرف الأولى يوم الخميس للأطراف الأخرى. وأكد الدرديري أنهم تلقوا اتصالات صباح يوم التوقيع المقرر من جوبا تشير إلى أنهم يريدون اللحاق بالتوقيع وأن الرئيس سلفاكير ميارديت أعلن ذلك إعلاميا، وأنهم كوساطة رحبوا بذلك، وقاموا بإرجاء التوقيع من الواحدة والنصف ظهر الخميس إلى الخامسة مساء ليتسنى لوفد الحكومة التوقيع، موضحا أن الوساطة كان بإمكانها تحديد زمن مبكر لكن انشغال الخرطوم باستقبال الرئيس السيسي جعل التوقيع في الخامسة مساء؛ كاشفاً عن أن الوساطة تلقت اتصالاً آخر يفيد بأن لجوبا بعض الملاحظات التي تريد مناقشتها وتضمينها في الاتفاق وأن ذلك يصعب مع تحديد التوقيع في الخامسة مساء وتريد مهلة أكبر، وأضاف: ما كان من الخرطوم إلا أن طالبت جوبا بخطاب رسمي بذلك، وهو ما تم بالفعل بإرسال جوبا لرسالة مكتوبة في الخامسة والربع، وقال: نعلن تأجيل التوقيع بالأحرف الاولى حتى يتم التشاور في مقترحات وملاحظات الأطراف. منوهاً إلى أنه لا يوجد أي جديد في المقترحات والملاحظات التي قدمتها الأطراف، مشددا على أن التأجيل سيكون إلى أي وقت قبيل موعد التوقيع النهائي في 26 يوليو الجاري. لا تعديل في النسب وقطع الدريري بأن الوساطة تعمل وفقاً لقاعدة عدم قبول أي مراجعة لنسب قسمة السلطة لأنها مقبولة من الجميع ويتحفظ عليها الجميع في نفس الوقت، وأضاف: هذه مسألة لا يمكن إرضاء الجميع فيها، مشيراً إلى أنه بخلاف طريقة إدارة فترة ما قبل الانتقالية، وآليات تنفيذ اتفاق السلام وعدد وترسيم حدود الولايات لا يمكن مراجعة أي مسألة أخرى أو النظر فيها. وشدد الدرديري على أن الوساطة لم تتلقَّ ردَّاً بالرفض من أي طرف، وإنما ملاحظات، وأضاف: الجهة الوحيدة التي رفضت كانت حكومة جوبا في 17 يوليو وعادت عنه إذا تم وضع ملاحظاتها في الاعتبار، نافياً ممارسة السودان ضغوطاً من أي نوع على الأطراف، وأضاف: نحن لا نملك ما نضغط به.