د. عبدالعظيم ميرغني دروس من الصين زعم الأمريكان بأنهم قد هبطوا على سطح القمر لا بد أن يكون نتاج خبال أصاب عقولهم، هكذا يقول الصينيون. فالقمر هو عالم الإلهة الجميلة (جانق)، إلهة القمر، وزوجة رامي القوس العظيم (هو وي) الذي أنقذ العالم باصطياده تسع شموس بسهام قوسه. ففي تلك الأيام كانت هناك عشر شموس تدور حول الأرض. وفي يوم ظهرت تلك الشموس العشرة مجتمعة في كبد السماء وأخذت ترسل شواظها مددا على الأرض فانبرى (هو وي)، رامي القوس العظيم في ذلك اليوم واصطاد منها تسعاً فكوفئ على ذلك بأن صار ملكاً، ولكن (هو وي) ما لبث أن استحال إلى طاغية قاس، وحتى تنقذ الناس من ظلمه وتعسفه قامت الإلهة (جانق) بسرقة قرص الخلود منه وابتلعته. وسرعان ما وجدت سابحة في الفضاء نحو القمر. وهناك شعرت بغثيان شديد وما أن أفرغت ما بداخلها حتى تحولت إلى أرنب أبيض ثم إلى ضفدعة بثلاثة أرجل، وسكنت قصراً يوجد في صحن فنائه شجرة (قرفة) سريعة النمو لو تركت دون تهذيب أو تشذيب لظللت فروعها وجه القمر ولحجبت الأرض من ضوئه، لذلك كان الإله الحاطب (ويق انق) دوماً حاضراً للعناية بالشجرة وفروعها. قد تبدو هذه قصة اسطورية خيالية، بعيدة كل البعد عن أرض الواقع بحجة أن رواد الفضاء الأمريكان الذين زعموا أنهم قد وطأوا ثرى القمر لم يحدثوا عن أرنب أبيض أو ضفدع ثلاثية الأرجل، ناهيك عن الحديث عن الإله الحاطب. ولكن قد يقول قائل إن سيناريوهات تفنيد زعمهم متوفرة ومتنوعة وعديدة، منها مثلاً أن الرواد الأمريكان قد يكونوا قد أخطأوا هدفهم وهبطوا قمراً آخر غير قمر الإلهة (جانق) الجميلة، وقد يكون نيل أرمسترونق الذي قيل أنه أول من وطأت قدماه ثرى القمر ومات في أغسطس الماضي، مات وهو لا يعرف أنه قدماه لم تمسا ثرى القمر، فربما هبط قمراً آخر، فتلك سنة أمريكية ابتدعها مكتشف أمريكا الأول كريستوفر كولومبس الذي هبط أمريكا معتقداً أنها آسيا وأن الأرض التي اكتشفها إنما هي تلك التي توجد بالقرب من الهند ومات في القرن السادس عشر وهو لا يدري أنه قد اكتشف أمريكا. ومما يعزز صدق هذه (الأسطورة القمرية) أيضاً، واقع الممارسة الحياتية الصينية والتي تثبت وجود علاقة وثيقة بين ما تنطوي عليه هذه الأسطورة من مفاهيم وواقع هذه الممارسة الحياتية الصينية، التي تقوم في المقام الأول على العناية بالأشجار كما ينبغي وكما يمارسها الإله الحاطب (ويق انق) على القمر. ومن تلك الممارسات ما خرج به مؤتمر الغابات المركزي الذي انعقد عام 2009م تحت مظلة اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني والذي كان له شأن ذو مغزى تاريخي، حيث رُفِّعَت الغابات كصناعة رئيسة وحرفة عامة ذات وظيفة خاصة. كما تبنى ذلك الاجتماع سياسات إصلاحية تتعلق بنظام الملكية الجماعية للغابات. ومنذ العام 1998 أنشأت الصين سلسلة برامج للغابات وضمنتها في خطة التنمية الاقتصادية والاجتماعية القومية، ووفرت لها تمويلا ماليا ارتفع مما قيمته 13 مليار يوان صيني (6 يوان تعادل دولار واحد أمريكي) إلى 138 مليار يوان، بزيادة سنوية بلغت حوالي 24% وفرتها حكومة الصين من الخزانة العامة والقطاع الخاص ومصادر التمويل الخارجية. وقد تبع ذلك مردود غابي تمثل في زيادة معدلات الاستزراع بحوالي 23 مليون فدان سنوياً وارتفعت مساحة الغابات بحوالي عشرة ملايين فدان خلال الفترة 1999 – 2003 وحدها. وأنشئت 2538 محمية طبيعية وتناقصت مساحات الأراضي المتصحرة بمعدل 6700 كيلومتر مربع سنوياً مما قفز بمساحات الغابات في الصين إلى معدل غير مسبوق عالمياً في وقت وجيز. ومن واقع الممارسة الحياتية الصينية التي تعزز صدق الأسطورة (القمرية) الصينية، تجنب الصين التركيز على منتجات الغابات الخشبية دون الأخذ في الاعتبار منتجات الغابات الأخرى غير الخشبية. كما تجنبت تغليب النظرة الاقتصادية البحتة القائمة على أحادية المحصول الغابي بإهمال الجوانب الإيكولوجية والبيئية للغابة. فالضفدع والأرنب اللتين وردتا في الأسطورة لهما دور مهم أيضاً مكافئ لذلك الذي تقوم به الشجرة في مفهوم الإدارة الصينية للغابات، فالغابة تدار أيضاً بمفهوم تعظيم العائد من منتجات الغابة غير الخشبية كالضفدع مثلاً الذي يهيأ له مناخ التوالد في فصل الخريف كجزء من النظام الإداري للغابة ليتم جمع الناتج من الضفادع في الشتاء كمحصول صادر لبعض البلدان كاليابان مثلاً. وبجانب اهتمام الممارسة الحياتية الصينية بالأشجار والغابات ومنتجاتها الخشبية وغير الخشبية تعول الصين كثيراً على ثروتها من منتجات الغابات الأخرى مثل القنا. تاريخياً عرفت الصين باسم مملكة القنا بفضل كثافة مواردها الطبيعية والاصطناعية منه، وهو يغطي عشرات ملايين الأفدنة. وفي تاريخ الصين يظهر القنا دوماً في أشعار الصينيين ونثرهم. وقد عرفت حضارات شرق آسيا عموماً باسم حضارة القنا. وتعتبر الصين بلاد ثقافة القنا. وينمو القنا عادة في المناطق الباردة والمدارية الجافة والرطبة الحارة والمعتدلة في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، ومعظم الدول التي ينمو فيها القنا دول نامية لذلك عرف القنا بمسمى "خشب الفقراء". وفيما عدا الصين وبعض الدول الآسيوية الأخرى كالهند واندونيسيا واليابان والفلبين، فإن فلاحة القنا واستخدامه ما زالت ترزح في طورها البدائي والتقليدي. ويبلغ حجم الصادرات التجارية من القنا أربعة مليارات دولار أمريكي سنوياً مقارناً بحجم الصادرات التجارية من الأخشاب التي تبلغ 20 مليار دولار أمريكي. وتتعدد استخدامات القنا في الصين لتتراوح من صناعة الأثاثات والأرضيات وحتى وسائل الحركة كالدراجات، والغذاء أيضاً، إذ لا تخلو المائدة الصينية عادة من الأطباق المطهوة من بعض أجزاء نبات القنا، كما يستخدم القنا في إنتاج الطاقة الكهربائية والمستحضرات الطبية وصناعة الملابس. وقد صار القنا أحد أهم عناصر محاربة الفقر في الصين. هكذا يمكن رؤية هذه الأسطورة الصينية من زاوية الممارسة الحياتية العادية الصينية، وكجزء لا يتجزأ من نظام الحياة المعاشة فيها، وكقصة رمزية تعبر عن واقع النظرة الحياتية الصينية بالرغم من استحالة تصديق جوانب دعاوي الأسطورة التي تتناقض مع الجوانب العلمية والمنطقية للحياة والأشياء.