جزء كبير من الأزمة السياسية الحالية متعلق بسيادة حالة تطهيرية في الخطاب السياسي في فترة السنوات الثلاث الماضية. هذه الحالة أفقدت النقد الذاتي قيمته، وجعلت القيمة السياسية السائدة هي مُحاولة احتكار الصواب الدائم والمُطلق. كُل جهة ظَلّت تُحاول وصم وتشويه مواقف الأفراد والجهات المختلفة معها وتجريمها، بدلاً من نقاش مواقفها وأفكارها ومحاولة التقاط ما هو صواب منها وتطويره باتجاه أرضيات مشتركة جديدة. سيادة هذه الحالة العبثية المُطلقة من وهم احتكار الصواب، منعت أي نقاش ديموقراطي عقلاني، وكذلك مهّدت لاستسهال الكذب والتضليل والتجريم الأخلاقي والشخصنة والاتهامات المُطلقة على عواهنها، باعتبار أن الآخر المختلف هو العدو في كامل سوئه والذي يستحق كل ما يصيبه بدون أي مسطرة أخلاقية لما هو صواب من فعل وما هو خطأ، حيث أن لا صوت يعلو فوق صوت المعركة ضد الشرير، والشيطان الأكبر والذي يؤمن كل طرف بأنه الطرف الآخر. أفسد هذا المنطق المعوج، مُجمل التداول السياسي السوداني خلال الأعوام الثلاثة الماضية، وأدى إلى سيادة حالة من الشعبوية البغيضة التي لا تتوانى عن إطلاق أي خطاب أو تبني أي موقف، بغض النظر عن انعكاساته على حياة الناس أو مُجمل العملية السياسية، ما دام يشوِّه الآخر ويضع الذات في موقع البطولة واحتكار الصواب. خُضت عدة نقاشات في أزمان مختلفة مع عددٍ من الأصدقاء في مواقع وخنادق سياسية مُختلفة، خاض بعضهم في تلك المُستنقعات ونجا آخرون منها وحلها، وعلى اختلافهم واختلاف مواقفهم السياسية، وجدت أن ما يجمعهم دائماً هو التبرير لهذا المنطق السياسي المعوج، بأن سوء الآخر يبرره تماماً وأن اختلافهم معه جذري بما يجعله يستحق أي شيء. جذرية هذا الاختلاف هي نفسها محل جدل واعوجاج. فالمرجو من التحول الديمقراطي ليس ان ينتج اتفاق بين كل السودانيين وبين كل القوى السياسية حول كل شيء ولا حتى حول اي شيء، المرجو من التحول الديمقراطي ليس أن ينتج اتفاقاً بين كل السودانيين وبين كل القوى السياسية حول كل شيء ولا حتى حول أي شيء، المرجو منه فعلاً، أن يرسي لنا قواعد متفق عليها لممارسة هذا الاختلاف والنقاش حوله بدون تجريم سعياً للوصول إلى مواقف غايتها الصواب والأجدى لمصلحة السودان وشعبه من أي جهة جاءت. ما يجمع القوى التي ناضلت معاً ثلاثين عاماً ضد شمولية الإنقاذ هو مبادئ أساسية حول شكل الممارسة السياسية التي ترغب في إرسائها بالبلاد، وهو سابقٌ وأساس لإدارة أي اختلاف فكري أو أيديولوجي بينها بشكل سلمي وسلس.