الدقيقة اصطلاحاً هي معيار زمني يساوي جزءا من الساعة وبهذا المفهوم فهي فترة توقيتية قصيرة غير انها في المفهوم الشعبي السوداني ربما تعني فترة زمنية اطول من ذلك بكثير قد تمتد احياناً سنين عدداُ وسأستعرض هنا شواهد على ذلك ابدأها من خارج السودان وذلك لان ما حدث آنذاك أمر يفوق الخيال بكثير. في يوم 24 نوفمبر العام 1971م صعد على متن طائرة البوينغ 272 في مطار "بورتلاند" في الولاياتالمتحدةالأمريكية التابعة لطيران "نورث ويست اورينت" راكب باسم "دان كوبر" . قامت المضيفة بتوجيه الراكب لمقعده المخصص له ثم ما لبثت الطائرة ان حلقت في الجو. بعد قليل حيا كابتن الطائرة الركاب وتمنى لهم رحلة سعيدة ثم ما لبث ان أعلن انهم الآن يحلقون على ارتفاع 30 الف قدم وانه يمكن للركاب فك الأحزمة والتجول في الطائرة. نهض "دان كوبر" من مقعده وفي هدوء شديد توجه لكابينة القيادة . هناك اخرج من جيبه قنبلة وصرخ في وجه الكابتن قائلاً: (سيدي انا الآن قائد الرحلة وعليك الانصياع لتوجيهاتي وإلا سأفجر الطائرة). ساد هدوء شديد ارجاء الكابينة لوهلة قبل ان يواصل الرجل الحديث بصوت صارم: (اولاً عليكم تزويدي باربع مظلات. ثانياً تجهيز مبلغ 200 الف دولار. ثالثاً التوقف في أقرب مطار للتزود بالوقود ثم انتظار باقي التعليمات). ران صمت ثقيل قطعه صوت الطيار الهادئ: (حسناً سيدي سأنفذ تعليماتك بالضبط). لحسن الحظ كانوا قريبين من احد المطارات فطلب الطيار الإذن بالهبوط الاضطراري فاجيب لطلبه وهنالك تلا على السلطات المحلية مطالب الخاطف. تمت الاستجابة لمطالب الخاطف وهنا طلب من الطيار التوجه إلى المكسيك.ادار الكابتن ماكينة الطائرة ثم حلق في الجو متوجها إلى المكسيك في هذه اللحظة حدث ما لم يكن في الحسبان في "دقيقة واحدة" اختفى الراكب والفدية ومظلة واحدة!!! بحث طاقم الطائرة في كل مكان عن السيد "دان كوبر" ولكنه اختفى تماماً كأنه تبخر في الجو. أبلغ الطيار سلطات الطيران والشرطة بما حدث وبدأت اكبر عملية بحث في تاريخ الولاياتالمتحدةالأمريكية شارك فيها سلاح الطيران والشرطة FBI والCIA فمشطوا المنطقة حول الطائرة وتحتها وفوقها وفي كل مكان ولكن كان "دان كوبر" قد تبخر واختفى في الهواء! لا اثر للخاطف ولا للمظلة ولا للفدية تماما. وزعوا نشرة باوصاف الخاطف في كل مكان وزودوا كل الأماكن المحتملة الفنادق، المطاعم، محطات الوقود، المتاجر بالأرقام المتسلسلة للنقود ولكن كل ذلك البحث لم يسفرعن شيء ملموس. استمر التحقيق الذي شاركت فيه كل وكالات الامن الأمريكية لمدة 45 عاما كاملة وفي العام 2016م اقفل التحقيق نهائياً في هذه القضية الغريبة على أمل ظهور ادلة جديدة وهكذا امتدت الدقيقة الواحدة لأربعة عقود ونصف وما زال لغز "دان كوبر" عصيا على الحل. من امريكا إلى السودان شرق النيل فقد سمعنا هذه القصة من اهلنا. كان هنالك احد العظماء في المنطقة له نفوذ كبير ونقود كثيرة وكعادة عظماء الريف فقد كان يدير اراض شاسعة يعمل فيها لحسابه من هم تحت سلطته وسيطرته بعضهم ينتسبون اليه بالاسم لا بالدم. من هؤلاء كانت فتاة باهرة الحسن والجمال ذات قوام ممشوق وشعر سادل وعيون مكحولة. لفتت هذه الفتاة الانظار فأصبحت مطمحاً لكل راغب وأمنية لكل صاحب ولكنها كانت عصية على الكل من يرغب ومن لا يرغب لذلك لم يقترب منها احد بنية سوء. عيبها الوحيد هو انها كانت متحررة من قيود المجتمع إلى حد ما فكانت تتثنى في مشيتها و"تتجدع" في حركتها دون ابتذال والأدهى والامر انها كانت حاسرة الرأس دائماً دون غطاء مما يعتبر في عرف ذلك المجتمع المحافظ جرما كبيرا. استدعاها كبير العائلة كثيراً ونبهها مراراً وتكراراً ولكن لا حياة لمن تنادي فلم تغير سلوكها ابداً. وفي المرة الأخيرة هددها الشيخ الوقور انها ان لم تغط رأسها فسيحلق لها "صلعة" ويسلمها شعرها كاملاً في يدها. هنا حدث ما لم يكن متوقعاً استأذنت الفتاة ممن هم حولها بانها ستغيب "دقيقة " ثم تعود ولكنها اختفت تماماً . بحثوا عنها في كل مكان في المنطقة ولكن لا اثر ولا من "شاف ولا من درى". بعثوا الرسل للقرى المجاورة ولكن دون جدوى واخيراً يئس أهلها وفي قلوبهم حسرة ومرارة على تلك الحسناء الفاتنة التي اختفت في "ظروف غامضة" . بعد عقود من هذه الحادثة تكشفت بالصدفة قصة هذه الفتاة فاتضح انها ذهبت للعاصمة حيث احتضنتها امرأة خيرة آوتها ووفرت لها الملجأ الامن. خرجت الفتاة للعمل في "سوق الله اكبر" تغسل الملابس وتنظف البيوت وتطبخ للاجانب الذين كانت تعج بهم العاصمة آنذاك. وبرغم كل المغريات فقد حافظت على نفسها واحتفظت بعذريتها دون أن يمسسها انسان ولا جان مما لفت لها أنظار الكثيرين اعجاباً وتقديراً لهذا الجمال المصون . من هؤلاء احد ابناء الأسر الميسورة والذي هام في حبها واستهام وبرغم اعتراض اهله فقد صمم على الارتباط بها وتم الزواج الميمون وتكونت أسرة سعيدة مترابطة سرعان ما تكاثرت وتوسعت بالبنين والبنات. قابلت بالصدفة احد أحفاد هذه الفتاة التي تحولت إلى "حبوبة" وكان طالباً في المدرسة التي عملت بها معلماً وحكمة الله في خلقه انه على درجة عالية من الوسامة ويبدو انها الجينات الموروثة. القصة التالية حدثت ايضاً في نفس تلك المنطقة. امرأة توفي زوجها وترك لها ابناً واحداً عكفت على تربيته احسن تربية وفرت له كل شيء المأكل والملبس والتعليم فنشأ لا ينقصه ناقص بل كان أفضل كثيراً من اقرانه. تخرج الفتى وتوظف في وظيفة محترمة وبدأ يشق طريقه للأمام. هنا رأت الام الرؤوم انه قد حان أوان الزواج فتخيرت له فتاة محترمة من أسرة محترمة غير انه لدهشة الام رفض رفضاً قاطعاً الانصياع لرغبة الوالدة بل ذهب ابعد من ذلك وأعلن انه يرغب في الزواج من فتاة بعينها. كانت تلك هي اول مرة يعصى فيها الابن امراً لوالدته مما سبب لها ألما وحزناً شديدين. كانت تظن في البداية ان هذه نزوة عابرة ولكن الابن تمادى وشرع في إجراءات الزواج فعلا ظناً منه ان الام ستقبل بالأمر الواقع ولكن ما حدث بعد ذلك فاق كل التوقعات. يوم الزواج والكل مشغول والابن يستقبل المهنئين والمعازيم تسللت الام خارجة وفي "دقيقة" واحدة اختفت عن الانظار. هذه المرة تبخرت الام تماما ولم تعد حتى الآن. وبرغم تكاتف البحث وتواصله سنين عدداً فان الام ذهبت واختفت تماما مثل "دان كوبر" الامريكي. اما لغز الألغاز فقد كان في عهد الانقاذ وما اكثر ألغاز الانقاذ ويتعلق بالشاعر "ابو ذر الغفاري". اسمه اسماعيل عبدالله الحسن ود الماذون من مدينة "الحاج يوسف" . ولد بعاهة خلقية فقد كان بلا اياد تقريباً بل أصابع مغروسة في الجسد ولكن ذلك لم يمنعه ان يعيش حياة طبيعية. دخل المدارس وتدرج فيها حتى تخرج من "جامعة القاهرة فرع الخرطوم". كان شاباً نحيلاً لونه فاتح وسيماً إلى حد ما يقول أقرب اصدقائه انه كان متقشفاً جداً يعتمد تقريباً على القهوة والفول المصري في وجباته الثلاث لذلك أطلقوا عليه لقب ابوذر الغفاري. كان فناناً بمعنى الكلمة جمع متناقضات عدة . احب كمال ترباس حباً جما حتى انه كما يقول اصدقاؤه كان يجوب العاصمة متتبعا حفلاته. أما أغرب الغرائب فبرغم انه كان ينتمي لتيار سياسي مخالف لدكتور حسن الترابي فانه لم يكن يفوُت له ندوة او محاضرة. يقول في تبرير ذلك أنه يعجبه في الدكتور نطقه لمخارج الحروف العربية. ذات مساء شتوي بارد فى أكتوبر 1989م توقفت عربة بوكس امام باب المنزل. طرق شخصان الباب ففتح لهما ابو ذر ودار بينهما حوار قصير. دخل المنزل وأخبر والدته الحاجة "سكينة" انه سيغيب "دقيقة" ثم يرجع. حمل أوراقا وقلما ثم خرج. ومنذ ذلك التاريخ اختفى الشاعر "ابو ذر الغفاري" . بحثوا عنه في كل مكان ولكن لم يعثر له على اثر. جابوا المستشفيات والحراسات والمشارح ولكن دون جدوى فقد تبخر ابو ذر الغفاري في الهواء . بكته والدته حتى فقدت بصرها تماماً ثم مالبثت ان فارقت الحياة حزناً عليه. وكما كانت هجائية المتنبي لضبة بن يزيد الضبي والتي قال فيها : ما أنصف القوم ضبه وأمه الطرطبه وانما قلت ما قلت رحمة لا محبة سبباً في نهايته فان الناس يقولون ان قصيدته التي تغنى بها مصطفى سيد أحمد والتي اعتبرها اهل الشأن هجاء وتعريضاً بهم كانت ايضا سبباً في نهاية الفتى النحيل "ابو ذر الغفاري" فقد رددها خلفه الشباب وانتشرت بينهم والتي يقول فيها: في عيونك ضجة الشوق والهواجس ريحة الموج البنحلم فيها بي جية النوارس يا ما شان زفة خريفك كل عاشق أدى فرضو مافي شمساً طالعه الا تضحك ليها برضو والغمام الفيك راحل في الصنوبر بلقى ارضو وهكذا سكت صوت شاعر غريد كتب أجمل الكلام وأحلاه وانطفأت شمعة انارت برهة ثم غابت….أين اختفى ابو ذر الغفاري؟ بل من أخفاه؟ هل مات وحيداً كما عاش وحيداً؟ الله أعلم وسلامتكم