في بلدٍ منكود ومقهور، يئنُّ ويتوجَّع من ظُلم أبنائه، أطلَّ عليه فوْر إرهاصات انقشاع ظُلمة الاستعمار: "تجمُّعٌ بتوجيه مصري مُتطرِّف باسم (الأشقاء) الذي تكوَّن بهدف الاتحاد مع مصر في وحدة وادي النيل وتحت التاج المصري" كما أورد هارولد ماكمايكل في كتابه: (السودان)، ونشأ بعده عام 1945 "حزبٌ ثانٍ أكبر نفوذاً بأهداف مضادة تماماً له فيما يتعلق بمصر، ذلك هو حزب الأمة" وبدأ – بحسب المصدر نفسه – خلاف حقيقي بين الكتلتين، خلاف طائفي وشخصي. وأشعل هذا الخلاف بينهما حُمَّى الصراع إلى السلطة عبر حشد الشارع و(الرشوة) لكسب الانتخابات، وشكَّل ذلك تزييفاً للفعل الديمقراطي حينها، وإيذاناً بدخول العسكر إلى حلبة السياسة والحُكم، وإرهاصاً أيضاً بظهور (لعبة) التبادل القهري والمبارزة بين مدني وعسكري: انقلاب – ثورة، ثورة – انقلاب. في مشهدنا السياسي الحديث برز في الساحة بعد ثورة عارمة جنرالان ليكتُبا سطراً أو عبارات مموَّهة في صفحة جديدة من سجلاَّت تاريخ السودان المُكتنز بإخفاقات الساسة والحُكَّام يميناً ويساراً. وفي غمرة الصراعات (الدونكيشوتية) بين الأحزاب والحركات والتجمعات واللجان، وإثر ما تمخضت عنه التجربة السياسية الراهنة من (لخبطة الكيمان)؛ استقطب الجنرالان الإعلام وفلاشات الكاميرات نحو نشاطهما المنفرد كلٌّ في دائرته ومظنَّ طموحاته، وسرعان ما تبيَّن الراصدون أنهما متصالحان ظاهراً، متناقضان باطناً، واكتشفوا من تحليل مضمون تصريحاتهما أنهما يتجاذبان تجاذب الأقطاب المتنافرة (Unlike Poles Atract)، وأن مُحفِّز أو (catalyst) المصالح والطموحات لديهما أصبح فائق التأثير والخضوع لكل محاولات الاستمالة والاستقطاب والاحتواء، ومن الواضح والفاضح أن الهرولة نحو تلبية نداءات (الذات) تقتضي اعتماد وإجازة هذا التكتيك. نشرت (المجرة برس) تحليلاً ورد فيه: "المؤسف في المشهد السياسي السوداني الحالي أن كلاً من البرهان وحميدتي يتبنيان مشروعين غير وطنيين لحكم السودان.. فمشروع البرهان يستند على تأييد اللوبي الإسرائيلي في المحفلين الدولي والإقليمي، ومشروع حميدتي مرتبط سيامياً بالمشروع الإماراتي في المنطقة، وهو مشروع رافعته الأساسية اقتصادية واستثمارية ولا يستطيع حميدتي الخروج من سكة هذا المشروع، لأنه إن خرج؛ سيفقد تلقائياً قوته الدافعة والكابحة في ذات الوقت!!" إذاً هذان الخطان لا يدلاَّن على تأكيداتهما بأنهما منسجمان. هما شخصيتان نافذتان؛ لكن لا تاريخ سياسيَّ لهما، يفتقران إلى روافع السند الشعبي العام، قوتهما مستمدة من أكتافهما المرصعة بالمقصات والنجوم، وصدورهما المكتنزة بالنياشين، شخصيتان متعارضتان فهماً ومنهجاً، تعارضاً واضحاً حول رؤية كل منهما إزاء مُنحنى العلاقات الخارجية، إلى أي محور يلزم إدارة (دفَّة) السفينة، إنهما يعلمان جيِّداً أن اتفاق المدنيين (عنقاء)، ومع ذلك يدمنان المناشدة والانتظار دون مراعاة لملل شارع مُنهك ضاق ذرعاً بمماحكاتهما. الانتخابات دعابة لطيفة ومفردة يحرصان على ترديدها بكثافة في خطاباتهما لمجرد الاستهلاك والتطمين، ومناورة (مكشوفة) لتخذيل همم الداعين إليها، المنافحين عن أهميتها، المنادين بضرورة إجرائها في وقت مُعلن ومُحدَّد، وظلت هذه المفردة مثل (دُمية عروس) تُعلَّل بها الصبايا لبث الفرح في نفوسهن، وتواصل هذه الدراما صعودها؛ لكنها لا تخْفَى على فطنة المواطن الذي علِمَ أنه واقع تحت حَجَرَيْ رحى لطحنه وتحويله إلى ذرَّات، ولذلك فقد بدأ يتململ ويتضجَّر من البقاء ساكناً داخل مقطورة تتجاذب سحبها قاطرتان على خطَّين مفترقين، وربما ترتفع وتيرة الضجر والسخط إلى مرحلة الانفجار والتقاتل حتى لا يدري المقتول لِمَ قُتِل، ولا القاتل لِمَ قَتَل، وعندها ستترحَّم دول الجوار والإقليم على السودان، وتُعزِّي أبناءه في المهاجر مواسية بعبارة: (البقاء لله).