مدير جهاز الأمن في تنوير لضباط الجهاز بالخرطوم سعى لرسم خارطة طريق لتجاوز الأزمة عبر اعتماد طرائق تفكير جديدة تجنب السودان الانزلاق للفوضى. قوش بوصفه يقود الجهاز الأمني سعى للتاكيد على اصطفاف المؤسسة الأمنية وراء الشرعية القائمة متبنيا ذات الموقف السياسي للحزب الحاكم عبر الدعوة للاحتكام لصناديق الاقتراع كوسيلة وحيدة للتغيير، مع التأكيد على ضرورة إجراء إصلاحات ضد الفساد بقوله: "إن السودان لكل السودانيين وإن المحسوبية مرفوضة وإنه لا تهاون خلال المرحلة القادمة في التعامل مع المتقاعسين أياً كانت صفاتهم ومواقعهم في جسم الدولة". وجدد قوش دعوته إلى التفكير خارج الصندوق، مشيرا إلى أن الشباب هم أبناء الإنقاذ وينبغي الالتفات الجاد لقضاياهم الحقيقية ومطالبهم الموضوعية، مؤكدا أن الحكومة تنفذ بنجاح حزمة معالجات شاملة للأوضاع الاقتصادية والخدمية الماثلة. سر التوقيت والهدف التحليلات تذهب إلى أن قوش هدف من خلال خطابه إلى دعم عناصره في المقام الأول، خاصة مع تنامي الانتقادات وظهور ما يمكن وصفه بمحاولة استهداف معنوي لتلك القوات، أخذت أكثر من شكل وظاهرة فاقمتها حادثة مقتل أستاذ خشم القربة وتداعياتها؛ أما الأمر الثاني فهو محاولة إجراء تهدئة في ظل التصعيد السياسي عبر محاولة مخاطبة أسباب الاحتجاجات عبر مخاطبة السلطة التنفيذية لإجراء إصلاحات خاصة فيما يلي الحديث عن المتقاعسين وفي ذات الوقت شمل الخطاب إشارات للتقارب مع المتظاهرين خاصة في الشق المتعلق بأن الوطن للجميع ولكل السودانيين، وأنه لا محاباة بعد اليوم. من جانبه يرى الأمين السياسي لشباب الوطني نعمان عبد الحليم، في حديثه ل(السوداني)، أن دعوة مدير جهاز الأمن للتفكير خارج الصندوق خاطبت الحكومة أولا عبر حماية نفسها بالحوار والفكر، لافتا إلى ما قام به قوش من حوار مع شباب معتقلين اتفق معهم على ضرورة التغيير واختلف معهم حول الوسيلة (الشارع - الانتخابات). كثيرون اعتبروا أن خطاب قوش مقارنة بتصريحات النائب الأول للرئيس السابق علي عثمان محمد طه ورئيس البرلمان السابق الفاتح عز الدين بدا متقدما خاصة أنه يبدو الأقرب لمخاطبة جوهر الأزمة التي تعتبر سياسية بامتياز ذات تمظهرات اقتصادية واجتماعية، ولم تفلح الحكومة في مواجهتها. فيما يرى البعض الآخر أنه خطاب مبني على الدفاع النفسي عقب تسريبات خطابه مع عضوية القطاع الصحي وما ترتب عليها من تداعيات وهجوم وتصورات حول شخصية قوش. استقطاب حاد مراقبون يرون أن المشروع السياسي للإنقاذ منذ بدايته في العام 1989م، أدخل السودان في حالة استقطاب داخلي وخارجي حاد بسبب محاولة تجيير المشروع الوطني وفقا لتصور أيديولوجي أحادي وهو ما قاد للوصول لطريق مسدود بعد ثلاثة عقود. المحلل السياسي عزت الشريف يذهب في حديثه ل(السوداني)، إلى أن جهاز الأمن يعمل وفقا لرؤية سياسية عامة تقوم على احتكار المجال السياسي وتصدر العديد من السياسات الخاطئة مما يعني أنه يعمل لخدمة رؤية خاطئة ويتحمل تكلفتها عبر القيام بإجراءات وترتيبات تقود لانتهاكات أو لأدوار فوق طاقة الجهاز لسد العجز السياسي والتنفيذي كخلق ممرات آمنة للخبز، وأضاف: في الظروف الطبيعية التي تشهد توافقا سياسيا ووحدة وطنية تكون مثل هذه الممرات طبيعية فالإرادة السياسية تخلق رغبة وطنية في المحافظة على مصالح البلد. واعتبر الشريف أن الإقصاء يتطلب إجراءات استثنائية بغض النظر عن التنفيذيين سواء كانوا جيدين أو سيِّئين فإن المشروع الإقصائي سيئ من أساسه، فالصرف على البنود السياسية والأمنية للحفاظ على استقرار النظام يكون خصماً من الصرف على القطاعات المنتجة، كما أن الحصار الخارجي بسبب التدخل في شؤون الدول الأخرى في السابق، أدى إلى عدم القدرة على جلب الاستثمارات والمساعدات مما جعل الاقتصاد يرزح تحت مخاطر بسبب استمرار عدم التحسن في خلق فرص العمل ومستويات المعيشة، وهو ما يؤدي بالضرورة لتفاقم حدة الاحتكاكات الاجتماعية والسياسية الدائرة حالياً. فيما يرى الخبير الاقتصادي د.التيجاني الطيب، في حديثه ل(السوداني)، أن الصرف على قطاع الدفاع والأمن ارتفع في الموازنة الحالية لنحو 46.6 مليار جنيه نحو 22.6% بينما الصرف على القطاع الزراعي والصناعي والصحة والتعليم نحو 7%، لافتا إلى أن التهديد الأكبر للموازنة يتعلق بالتحديات الأمنية والسياسية بعد الاحتجاجات التي من المتوقع أن تكون قد كلفت المالية العامة أكثر من 6 مليارات جنيه في الشهر الأول منذ اندلاعها. جدل الصناديق (صندقة) البلد لن تحل بصندوق الاقتراع وإنما يستلزم الأمر تغيير العقلية السياسية التي تدير البلد، فالديمقراطية كما يقول المفكر والكاتب جورج طرابيشي تقوم على "صناديق الدماغ قبل صناديق الاقتراع"، وهو ما يستلزم تحولاً سياسياً يستند على شراكة وتوافق سياسي واسع على المستوى المحلي، وسياسة خارجية تخرج على لعبة المحاور لسياسة قائمة على عدم التدخل في شؤون الآخرين. نعمان عبد الحليم يذهب إلى أن الحزب الحاكم والمعارضة يجب أن يضعوا الحفاظ على البلاد واستقرارها كأولوية، ووفقاً لذلك إدارة حوار شفاف دون تصورات مسبقة يفضي لانتخابات وفقا للشروط التي يتم التوافق عليها وأمر بحسب نعمان يبدو مشجعا للمعارضة بحسابات السياسة الموضوعية. غير أن المحلل السياسي محمد مصطفى جامع، يذهب في حديثه ل(السوداني) إلى أن الدعوة للاحتكام لصناديق الاقتراع لا تمثل تفكيراً خارج الصندوق لا سيما في ظل عدم توفر قدر من العدالة في ظروف ومناخ الانتخابات سواء البيئة السياسية التي تتضمن الحريات واحتكار الحزب الحاكم لموارد الدولة أو حتى تكوين لجنة الانتخابات أو الإعلام أو الأجهزة الأمنية أو القضاء مما يجعل نتيجة الانتخابات معروفة مسبقا. وبحسب جامع فإن الدعوة للاحتكام لصناديق الاقتراع كوسيلة للتغيير لن تجد قبولا سواء من المعارضة أو الشباب. بينما يذهب الشريف إلى أن المطلوب الخروج من الصندوق بالكامل عبر تغييرات جذرية عميقة وذات مصداقية تحقق شراكة وتوافقاً سياسياً حقيقياً، مضيفاً: "مثلما يتطلب الأمر من القيادات السياسية التفكير خارج الصندوق، فإن القيادات التنفيذية والأمنية يجب أن تتحرك خارج الصندوق، وأي حديث عن انتخابات 2020 في ظل الأوضاع الراهنة هو بمثابة إنتاج للأزمة ولن يجد أذناً صاغية". خلاصة الأمر، أن الفرقاء السياسيين في الحكومة والمعارضة يجدون أنفسهم الآن أمام مسارين: أحدهما يتعلق بالتفكير الإقصائي (الصندوق الحالي)؛ أما الثاني فيتعلق بتأسيس منصة وطنية يتوافق عليها الجميع، وبين هذا وذاك يبقى أن "التفكير خارج الصندوق" يتطلب الخروج من حدود الأفكار والسياسات المجربة لاستخدام أفكار خلاقة، وهو أمر يحتاج إلى تغيير في البيئة السياسية خاصة فيما يلي الحريات.