للمدن والتاريخي منها على وجه الدقة عبق وخصوصية ومناجاة تطول. في القاهرة على سبيل المثال خان الخليلي بصورته العتيقة تلك.. ليس الأمر في الأواني والمنتجات الأثرية والشعبية القديمة ولكنها الأواني والمباني والمعاني. وكذلك الحال في القاهرة نفسها، بالحسين، السيد رضوان الله عليه والحي والمكتبات الأصيلة والقديمة وبالأحياء الشعبية العظيمة وتقسيمات ذلك الحي العظيم الغورية وما فيه من فحامين ولحامين وعطارين وهكذا حال القاهرة القديمة التي لا أدري لماذا لم يطلق أحد عليها اسم القاهرة العجوز كما دنقلا وكما شندي مثلما جاء في إحدى قصائد والدي الأرباب أحمد إدريس يرحمه الله. لا أريد أن أمكث طويلاً عند قاهرة المعز رغم اعتزازي ومحبتي لها وإلا فحديثكم عن السيدة زينب وأزقتها وجحشها الفوال الشهير الذي يجتمع عنده نجوم المجتمع الفني والمسرحي في الساعات الأولى من كل يوم ولحدثتكم عن الجمالية وأبواب الشعرية الحديد واللوق والتوفيقية وغيرها من أحياء القاهرة القديمة والتي أتى عليها الزمان فابتلعتها الحداثة والعصرنة وأصبح حي المهندسين على كل لسان وهو الذي كان (غيطاً) لا أكثر يخشى المرء أن يأتيه مساء حتى قبل سبعين عاماً أو تزيد قليلاً. أنا الآن في جدة القديمة وفي ساحة من أشهر وأعرق ساحاتها بل وفي دار أشهر دورها وبيوتاتها.. أجيئها كثيراً خاصة هذه الأيام وأنا الذي لم يكتب له أن يغشاها أو يعبرها طيلة أيامي وأعوامي في هذه المدينة الحبيبة العظيمة القديمة الأثيرة والكبيرة. هذه مدينة كانت كبيرة في قدرها وما زالت وكانت صغيرة في مساحتها بل أنها كانت تغلق أبوابها حينما يأتي المساء وما تأكيد ذلك إلا أنها مدينة قد عرفت بأبوابها فباب مكة وباب شريف وباب جديد أما الباب الأوسع والأكبر فكان في هذا البحر الذي كم سأله السائلون إن كانوا جماعات ووحدانا منه وغير ذلك من سؤال. في البلد وهكذا يسمى قلب هذه المدينة النابض والمتمدد ما بين البحر وما ذكرت من أبواب وأسواق كان مكتبي.. طاولة صغيرة في مكتب صغير يعج بالزملاء وجلهم من الإخوة المصريين وأنا أصغرهم في السن والقدر معاً. الثامنة صباحاً يبدأ يومنا في العمل وفي السابعة تبدأ تجمعاتنا والتي عادة ما تكون قطرية كما يقول البعثيون فتجد السودانيين بصرف النظر عن مواقع عملهم ومقارها يجتمعون على طاولة فول شهي وحمص بهي وكوب من الشاي نقي. يا لتلك الأيام وبعدها واختلافها عن هذه الأيام.. كم اتسعت وكبرت هذه المدينة.. ففي تلك الأيام وحينما تم زواجي وعزمت على أن تكون زوجتي معي وقع اختياري على شقة سكنية في عمارة جديدة وجاء أخ كريم كان يرعى مسيرتي ويتعهدني بالنصح والارشاد وكان رد فعله تعجباً واستنكاراً لاختياري.. يا خي إنت عايز تجيب بت الناس دي في الخلا ده؟؟ لا أنيس ولا جار ولا ونيس أو رفيق في النهار. أخذت بكلامه وتغير قراري لكن ذلك الخلاء القفر قد كان يبعد من كوبري فلسطين أو عمارة (لا إله إلا الله) الشهيرة ما لا يزيد عن الاربعمائة متر فقط ويقع تماماً خلف أو شرق قصر الملك خالد يرحمه الله والذي أصبح مقراً للإغاثة الإسلامية وجزء منه معرضاًِ فخماً لسيارات اللكزس. برحة نصيف في قلب البلد وأنا في قلبها.. ليست الساحة فقط ما يلفت الانظار بل دار نصيف والتي شهدت من الاحداث وخرج عنها من القرارات واقام فيها من الشخصيات ما يجعل منها أهم موقع في هذه المدينة العريقة.. الدار تحولت إلى متحف وأحسب أن ذلك هو أقل ما كان يمكن أن يوفي إليها. ودار أخرى لأسرة نصيف فيها مكتب المحامي الكبير الشيخ عبد الرحمن عمر نصيف هذا الرجل الوقور الطيب.. جئته بالأمس في شأن عمل ممتد ومتواصل بيننا وانتهزت الفرصة لأعيد إليه كتاباً كان أحد كتابين استعرتهما فمازحني الرجل: لكنهما اثنان يا أبا أحمد فقلت له: يا أبا فيصل لقد رضيت أن أكون أحمقاً وأعيد لك كتاباً قد استعرته حتى أكون وفياً والثاني سيأتيك حالما أكمل قراءته. كنت أشير إلى قول الجاحظ: أحمقان معير كتاب ومعيده لكنه ، أي الشيخ عبد الرحمن قال لي في تأثر واضح. ألا يا مستعير الكتب عني فإن إعارتي للكتب عار ومحبوبي من الدنيا كتابي فهل أبصرت محبوباً يعار