شهدت خطبة عصماء للوزير علي كرتي في حديقة السفارة السودانية بالعاصمة الرواندية كيغالي. حقيقة، مبنى السفارة وملحقاته وأشجاره وأعلامه تمنحك الشعور بأن السودان دولة محترمة وراقية وجادَّة في علاقاتها مع الأفارقة، لقد اعتلى الرجل المنصة وتحدث قرابة الخمسة وعشرين دقيقية بلغة إنجليزية سليمة ومباشرة، بدأها بمطايبات ومجاملات معتادة ثم دلف إلى مرافعات ومواجهات بالإنابة عن بلاده ودولته وحكومته، وأبلى بلاءً حسناً للدرجة التي تشعر فيها بأنه تسبب في إثارة التوتر في الأجواء الديبلوماسية الناعمة الناعسة التي سبقت كلامه. ولكن صديقي الكاتب الصحفي الرواندي مارك واستا كان بالنسبة لي مقياساً محايداً لمقدار الفائدة من كلام الوزير...! حضور حفل افتتاح السفارة السودانية الجديدة شَمِلَ كل السفراء دون استثناء، بالإضافة إلى مدراء الأممالمتحدة واليونسيف وهلمجرا، وقبل كل ذلك وزيرة الخارجية الرواندية والتي عُرِفَ عنها الإقلال من الحضور إلا في دعوات السفارة الأمريكية فقط لا غير!. يبدو أن سفير السودان في كيغالي، الأستاذ نصر الدين والي، رجل يملأ العين وإلا لما كان عدد ضيوفها كبيراً لهذا الحد. كان صديقي مارك يستمع لإشارات الوزير حول مطامع بعض الدول حول فصل الجنوب وتقسيم السودان، يستمع ثم يغمغم: كلام مهم، مهم جداً. ثم يستمع لحديث الوزير حول مستقبل العلاقات مع جنوب السودان عندما تُنَفَّذ اتفاقية الحريات الأربع، وعندما يعود أهل الجنوب للشمال وأهل الشمال للجنوب، ويتمتع الشعبان بحريات العمل والتنقل والتجارة والتملك والدراسة والعلاج؛ إن هذا سينسف كل مخططات الوقيعة بين شعبي السودان، وأن من خَطَّطَ لهذه الوقيعة سيعضُّ أصابعه من الندم حينها، ويشعر أنه فشل فشلاً ذريعاً. يستمع مارك ثم يتفرس في وجوه سفراء المجموعة الأوربية والسفير الأمريكي، ويرصد ردود الأفعال ويغمغم مرة أخرى: هذا الرجل يعرف ماذا يقول. ويستمر العرض ويدلف الوزير للحلول الإفريقية للمشاكل الإفريقية، ويتحدث عن نماذج القوات الإفريقية والوساطة الإفريقية ومعركتها ضد التدويل، ومارك يُغَمغِم ويتَلَفَّت طرباً!. كانت محاضرة في الهواء الطلق، جعلتني أردد بعدها: ماذا يريدون من علي كرتي بعد هذا؟ أنا لا أتوقع أن يدفعونه إلى شيء أكثر من ذلك، إلا إذا كانوا يريدونه أن يحمل سيفه ويقطع الرقاب!. هذه ليست أول مواجهة أشهدها له ولن تكون الأخيرة، لكن كانت هذه المرة متزامنة مع مقالات ناقدة تُحَمِّله (مسؤولية الإتفاقية مع جنوب السودان!!) والتي وَقَّعها السيد وزير الدفاع قبل أيام. وسيعود علي كرتي للسودان والأجواء ملغمة ضده بحملات مستعرة، وبعد ذلك تنفتح عليه النيران وتتناوشه الأقلام التي لا طاقة لها بمواجهة شخصيات بعينها فتُحَمِّله بدلاً عنها مسؤولية كل العملية التفاوضية، مع أن الرجل بعد لأي وجهد أوجد كرسي مراقبة للخارجية في طاولة المفاوضات. مجرد عضو واحد في الوفد، ليس مقرراً ولا نائب رئيس ولا حتى ناطق رسمي باسم الوفد؛ ومع ذلك ما أن تُبرِمَ الحكومة اتفاقاً على أعلى المستويات مثل، الرئيس أو وزير الدفاع أو رئيس الوفد المفاوض السيد إدريس عبد القادر وهو وزير كامل الصلاحيات إلا وتسكب بعض الأقلام المداد الغزيرفي توبيخ الخارجية وتلطيخها بالوحل!. مهلاً، فلنكن موضوعيين قليلاً: ما هو العيب في الإتفاق الأخير حتى يضطر البعض للبحث عن كبش فداءٍ له من الأساس؟ وما هو بديل المنهج التفاوضي؟! لا إجابة!.