لم أتفاجأ مثل كثيرين بقيام قطاع الشمال بالتنسيق مع حركات دارفور بعمل عسكري خاطف، يستهدف نقطة ذات إشعاع إعلامي! قبل 12 يوماً ذكرت في هذه الزاوية الآتي: (قادة قطاع الشمال هم الأكثر تأثراً بذهنية جون قرنق وطريقته في التفكير، خاصة في الربط بين عمليات الميدان العسكرية ومتطلبات اللحظة السياسية. قرنق قبل كل مفاوضات كان يحرص على القيام بعمليات عسكرية شرسة، وتنفيذ مهام نوعية، حتى لا يجلس للتفاوض على مقعد مبتل! قبل نيفاشا سيطر قرنق على توريت، وقبل أبوجا هجم على جوبا من الداخل، وأثناء الاستعداد للتفاوض مع حكومة ما بعد الانتفاضة أسقطت الحركة الشعبية طائرة الفوكر المدنية المقلعة من مطار ملكال). انتهى. اختيار مدينة أم روابة لم يأت على سبيل الصدفة الاضطرارية، كما حاول أن يصور والي شمال كردفان، في إفادة باهتة أدلى بها للفضائية السودانية. الهجوم على أم روابة تم وفق اختيار تقدمت فيه الاعتبارات الإعلامية والسياسية على العسكرية. ومن هذه الاعتبارات أن أم روابة مدينة تجارية ظلت آمنة وسالمة، طوال سنوات الحرب في دارفور وجنوب كردفان. الغرض من الهجوم عليها إعطاء انطباع بأن الحرب انتقلت من الأطراف إلى وسط السودان، وفي الطريق للخرطوم! كما أن قطع الطريق بين الأبيض والخرطوم ولو لساعات قلائل يحدث أثراً إعلامياً أكبر من احتلال أي مدينة سكانية في الأطراف. تكتيك قطع الطرق الرئيسية اتبعته من قبل قوات التجمع المعارض في أواخر التسيعينيات على طريق الخرطومبورتسودان. ساذج من يعتقد أن بإمكان القوات المسلحة توفير غطاء حمائي لكل المدن والمناطق السكانية في عموم كردفان وكل دارفور! وإن كان مطلوب منها تطوير تكتيكاتها العسكرية و نوعية تسليحها لمواجهة حرب قوات الموبايل. إذا كانت القوات المسلحة قد وصلت معنا - سابقاً- لقناعة أن الحركة الشعبية ستفكر في القيام بضربات نوعية خاطفة، قبل أو أثناء أو بعد المفاوضات، كان من الأولى أن يسدد الجيش ضربات استباقية قوية تربك حسابات الخصم، حتى تضطره للتفكير في الدفاع لا الهجوم. معطيات عديدة تفيد بأن هذه الحركات المسلحة بقيادة قطاع الشمال لا تملك القوة العسكرية التي تمكنها من تحقيق انتصارات عسكرية مستقرة، لذا اختارت أسلوب الحرب الدعائية والاستنزافية. في جنوب كردفان اختارت سلاح الكاتيوشا، وهو سلاح دعائي معنوي يثير الرعب والفزع وسط المواطنين، ولا يحقق متغيرات عسكرية على أرض الواقع، وإن كان في مرات يستخدم كممهد لهجوم قادم.. وهو يعبر عن الضعف أكثر من القوة، والعجز أكثر من المقدرة! استخدام الكاتيوشا يوضح وجود عجز في التحرك الفاعل تجاه الأهداف المهمة عبر عمليات عسكرية تقوم بها قوات الجيش الشعبي! والهجوم على أم روابة يحقق ضجيجاً إعلامياً كبيراً، بتكلفة عسكرية قليلة، حيث لا وجود للقوات المسلحة بالمنطقة، إذ يقوم تأمين المدينة على أفراد قلائل من الشرطة بتسليح محدود. الحركة الشعبية في سبيل تقوية موقفها التفاوضي في أديس تخسر كثيراً على أرض الواقع بهجومها على ممتلكات المواطنين العزل، وعلى أرواحهم، وعلى خدمات الكهرباء والمياه. ستحتاج الحركة الشعبية لمجهود أخلاقي خارق لتبرر التجاءها لتحرير رسائل سياسية بدماء المواطنين العزل، وبتدمير خدماتهم ونهب ممتلكاتهم. كيف لحركة تدعي الثورية والانحياز للمهمشين وتنتقد ضعف التنمية والخدمات ومع ذلك تقوم بتدمير مرافق المياه والكهرباء لتخلق أزمة حياتية للمواطنين، ثم تذهب تتباكى -على الحالة الإنسانية- بدمع كذب على حوائط البيت الأبيض!. بالمنطق البسيط، إذا ترسخت قناعة لما يسمى بالجبهة الثورية أن تكلفة ما حدث بالأمس أقل مما حققته من مكاسب إعلامية ذات مردود سياسي، فإنها ستكرر ذات السيناريو عدة مرات في أم روابة أو غيرها.