عودة (كبر). .. وأشياء أخرى. ..! الفاشر: بكري خليفة دارفور. . ارتبطت في الأذهان بالحرب والمعسكرات والنزوح والقتل والتشريد وغيرها من مشاهد البؤس والفقر والقهر، بعد أن أعمل الإعلام العالمي آلته الضخمة لترسيخ هذه المشاهد البعيدة عن الواقع، و بعد انشغال العالم بثورات الربيع العربي وأحداثها العاصفة، وقبلها بالأزمة الاقتصادية، مزقت دارفور ذلك القناع المصطنع وأطلت بوجهها الحقيقي... الذي استقبلتنا به أيضاً عندما زرناها لمدة يومين، شهدت فيهما فاشر السلطان حاضرة ولاية شمال درافور فعاليتين: هما عودة واليها، وملتقى الاتحادات الطلابية... (كبر) وكوندليزا رايس كل صيت وصخب دارفور كان بالخاطر و أزيز الطائرة التي انطلقت بنا من مطار الخرطوم، وكنت قبل اليوم المحدد أخبرت مجموعة من الأصدقاء عن وجهتي إلى دارفور وحاضرة شمالها مدينة الفاشر، فكانت نصيحتهم جمعياً لا تذهب، فدارفور خطيرة، والحرب مشتعلة، والخطف والقتل، و غيرها من المخاطر التي لا تشجع بتاتا على الذهاب إلى هنالك. فإن كانت تلك رؤيتنا في السودان عن دارفور فماذا يا ترى يحمل الذهن العالمي عن دارفور، والتي ذاع صيتها في كل العالم وزارها عشرات الرؤساء ومئات البرلمانيين وآلاف من الوفود الأجنبية. لم أستطع أن أخبر الوالدة عن سفري إلى دارفور، لمعرفتي السابقة بأنها سترفض، لذلك جعلتها أمام الأمر الواقع و أخبرتها وأنا في المطار وقبل دقائق قليلة من إقلاع الطائرة من مطار الخرطوم التي غادرتها والهواجس تدور بذهني عن دارفور وشمال دارفور على وجه الخصوص وهي وجهتنا على الرغم من أنني كنت أعرف القليل عنها وواليها القوي عثمان محمد يوسف كبر، والذي يحتل مساحات كبيرة في الإعلام بحكم كونه والي الولاية التي شغلت الساحة العالمية والمحلية. تذكرت موقفه وهو يرفض لقاء وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة كوندليزا رايس في مطار الفاشر ويصر على استقبالها في داره العامرة، وعلى الرغم من إصرارها على أن يأتي إلى المطار إلا أنه بقي على موقفه، مما جعل من وزيرة أقوى دولة في العالم ترضح لإرادته. فاشر السلطان حطت الطائرة في مطار مدينة الفاشر والتي تعرف بفاشر السلطان، والمقصود هو السلطان على دينار، وهو مَن كسى الكعبة المشرفة. وكانت درجة الحرارة كما أخبرتنا المضيفة حوالي (29) درجة تذكرت حرارة الخرطوم اللافحة، فحتى بعد عودتنا من الزيارة بعد يومين ووصولنا الخرطوم في الثامنة مساء، قالت المضيفة إن درجة الحرارة بالخارج تبلغ (41) درجة، ونحن في المساء. كان في استقبالنا في المطار أعضاء حكومة الولاية بقيادة نائب الوالي الفاتح عبد العزيز ووزير المالية د. عبدو داؤود وعدد من أعضاء الحكومة، فوالي الولاية لم يصل بعد من الخرطوم التي وصلها من ألمانيا في رحلة علاج امتدت لأسابيع، والذي وصل الفاشر لاحقا في الرابعة من ظهر نفس اليوم. الطريق من مطار الفاشر حتى المدينة قطعته السيارة في بضع دقائق، وكان الوفد الزائر يمثل الاتحاد العام للطلاب السودانيين، وهم الذين وجهوا لنا الدعوة مشكورين لزيارة دارفور لحضور فعالية (ملتقى الاتحادات الطلابية) والذي يرعاه والي الولاية. قصر الوالي وصلنا إلى منزل الوالي الفسيح، والذي هو عبارة عن قصر يضم العديد من المباني والحدائق، فتناثرت في ساحاته جلسات مهيئة للضيوف، عبارة عن مظلات مصنوعة بعناية تحت الأشجار الظليلة، وتنتشر تحتها الكراسي الوثيرة، وبالقرب من صالة كبيرة خصصت لتناول الطعام للوفود، وقربها مسجد للصلاة، وغير بعيد عن المسجد قصر جميل خصص لسكن كبار الزوار، وفي الجانب الآخر قصر آخر للضيافة، مكوَّن من عدة طوابق، خصص أيضا للزوار والضيوف، لا يقل عن أي فندق (5) نجوم. عندما وصولنا كان قصر (كبر) ممتلئاً عن آخره بالمواطنين الذين مثلوا كل الأعراق والأجناس في دارفور، وتلمح اللافتات التي يرفعها البعض ترحب بمقدم (كبر) معافى، وبالرغم من ضخامة العدد الذي يضج به المكان إلا أن الحركة كانت منسابة والخدمات متوافرة، فحافظات المياه والعصائر توزعت على المكان، وبعض الشباب والشابات يخدمون الحضور، وفي الجانب الآخر كانت تنحر الذبائح لإطعام هذا العدد الهائل، وكما أخبرني أحد أبناء الفاشر أن هذا هو حال المكان، فالقصر غالباً يضج بالضيوف والوفود سواء من دارفور أم من خارجها. خطاب (كبر) كان الجميع فى حالة انتظار وترقب لملاقاة الوالي عثمان محمد يوسف كبر الذي سيخاطب هذه الحشود الضخمة التي انتظرته منذ الصباح الباكر، وصل (كبر) والوفد المرافق له من الخرطوم للمشاركة في الاحتفال الذي أقامه أبناء الولاية على شرف عودته، فكانت هنالك الكثير من الكلمات التي قيلت في حق (الوالي) من أبناء الولاية من جميع القطاعات: الإدارة الأهلية، والحكومة، والمواطنين، والضيوف. أعجبني كما أعجب الحضور كلام إحدى الأمهات الذي كان بلغة بسيطة، دعت لضرورة وقف الحرب قائلة (الدواس لازم يقيف، والناس القاعدين يموتوا ديل مننا، لو من الحركات المسلحة يا هم ناسنا، لو من الجيش ياهم ناسنا. يا جماعة، نحن النسوان ديل قلبنا بيقيف لما أولادنا يموتوا، يا جماعة وقفوا الحرب، الأولاد ما قاعدين نولدهم كده عشان يموتوا، ونحن خلاص تعبنا وما عندنا فقاسات عشان نولد ليكم تاني) فكان لحديثها أبلغ الأثر في الحضور. (كبر) على الرغم من إرهاق السفر وعودتة من الاستشفاء إلا أنه ظهر بشكل معافى وقوي، خاطب الجموع الحاشدة لحوالي الساعتين حتى أشفق عليه الحضور، وتناول كل الأحداث في الساحة السياسية والخاصة بدارفور، فإدان بأشد العبارات اغتيال القائد محمد بشر، وقال إن اغتياله هو إفلاس سياسي، وإن القتل لن يوقف الفكرة ولا القضية بمقتل قائدها. كما تناول الأحداث في جبل عامر وقال إنها أحداث فردية وليست حرباً قبلية. كما أوضح أنه سمع الكثير عن ما قيل عن امتلاكه لآبار الذهب في جبل عامر، وقدم الوالي إقراراً للذمة على الملأ، وقال بعد أن أقسم بالله ثلاثاً: إنه لا يملك بئرا واحدة للذهب في جبل عامر، ولا يملك درهما ولا دينارا ولا حتى حساباً واحداً في أي بنك، وقال من يجد لي حساباً وأموالاً ستكون له، وكل ما يملكه قطعة أرض في كافوري لم يتم تشييدها حتى الآن، وعربتان ومنزل مؤجر في الرياض ومنزل في السكن الشعبي. وقال على الرغم من أن مشكلة جبل عامر وجدت تناولا كبيرا في الإعلام إلا أن المشكلة قد حلت في ثلاثة أيام من تفجرها. وعرج على زيارته لأوروبا للاستشفاء، وأوضح أنه لم يكن مكلفاً من الدولة للقاء قادة الحركات المسلحة والمعارضة السودانية والمنظمات وبعض أعضاء الحكومات هنالك، لكنه فضل لقاءهم للتشاور ولتبادل الآراء ولمدهم بالمعلومات عن حقيقة الأوضاع بدارفور، فكان لذلك الأثر الكبير عليهم، وهذا ما جعله يقتنع أن أوروبا أصبحت قابلة لفهم حقيقة الأوضاع، وليس كما كان سابقا من تزمت لقادتها ومنظامتها تجاه ما يجري في دارفور، مشيراً إلى أن غياب المعلومة كان له الأثر الكبير على هذا التزمت وأنهم مستعدون للتشاور والتفاكر وعلينا فقط أن نملكهم المعلومات. وعن لقائه بالدكتور علي الحاج قال: إنه لم يلتقي به لأنه كان خارج ألمانيا عندما زارها. أسطول الطائرات كما أنه قال إنه لن يلتفت للشائعات التي تطلق وحديث البعض عن ضخامة الاحتفالات، وتأجيره لأسطول من الطائرات لتقل الوفود المشاركة من الخرطوم في احتفال عودته، وأنه لن يلتفت لهذه الإشاعات، وقال: إن الإشاعات طالته شخصياً خلال مرضه وأنه مصاب بمرض خبيث، لكنه قال: "الحمد لله أنا (كبر) ده بخير وما عندي مرض خبيث، وقال كلامي هذا موجه لمروجي هذه الشائعات" إنه لا شماته في الموت والمرض وأن مرضه هو التهابات في المعدة، والحمد لله تحسن وسيعاود المقابلة بعد شهر ونصف. كما تحدث عن الهدوء والاستقرار الأمني اللذان تشهدهما الولاية بعد أن تقهقر التمرد، وأصبح نشاطه محدودا ولم يعد موجودا إلا في جيوب في الأماكن الوعر، والذين اصبحوا عبارة عن قطاع طرق ينهبون بعض العربات ويفروض ضرائب وأتاواة على السيارات في الطرق، وسنتخلص منهم قريبا. مكاشفة مع الإعلام كبر خصص وقتاً كبيراً في لقاء مكاشفة مغلق مع وسائل الإعلام لساعات، وبدأ اللقاء طالباً من الإعلاميين توجيه الأسئلة له ليجيب عنها، لأنها تسهل الكثير، ثم يكون باقي الحديث. ولخص مشكلة دارفور في ثلاثة أشياء هي: الطموح الشخصية لقادة الحركات المسلحة، والإعلام المضلل، والتدخلات الأجنبية. وهذه الأخيرة ما عادت بالصورة السافرة بعد تحسن العلاقات مع دولة تشاد وذهاب نظام حكم القذافي في ليبيا، وقال إن الحركات المسلحة كلها توجد في شمال دارفور، لأنها تمثل 57% من مساحة دارفور فتوجد: حركة مناوي، وخليل إبراهيم، وعبد الواحد، وطرادة، وتهديداتها تتركز على الطرق. فمثلا طريق نيالاالفاشر يمر بشرق جبل مرة في منطقة وعرة، وعلى الرغم من وجود القوات المسلحة إلا أنها لن تستطيع أن تنشر كل جنودها على الطريق، لذلك تعمل الحركات على النهب والفرار. كما أشار إلى حادثة الاغتيال التي طالت القائد محمد بشر، وكشف أن الفزع الذي انطلق إلى مكان الاغتيال كشف عن قتل جديد لبعض الأسرى الذين وجدت جثثهم هنالك، وأن القتال أصبح داخل بطون القبيلة الواحدة، وكان ينبغي ألا يحدث ما حدث إذا استمع القادة المغتالين للنصائح التي وجهت إليهم. وكشف عن أن حكومته اتصلت بهم و نصحتهم بالعودة، لأننا كنا نعلم بأمر الكمين الذي أعد لهم، وكنا سنرسل لهم طائرة تقلهم إلى الفاشر، وعلى الرغم من التحذيرات إلا أنهم واصلوا التحرك فحدث ما حدث. أيضا عبر كبر عن رضاه التام عن فترة ولايته قائلا أنا راضٍ كل الرضا من غير رياء ولا تفاخر، وهذه معجزة وتوفيق من الله عز وجل، فكون أن تبقى الولاية على قيد الحياة فى ظل هذه الظروف فهي معجزة حقيقية، فالمشاكل التي تعانيها منذ سنوات انطلاق التمرد تكفي لإخراجها من الخريطة. "الفي بعلم والمافي ببلم" وعن التنمية قال كبر إن الأوضاع تحتاج لما جاء في المثل (الفي بعلم والمافي ببلم) والعين بصيرة والأيد قصيرة، مشيرا إلى أنه يبشر أهل الولاية بأن هنالك 77 مليون جنيه رصدت لمشاريع تنموية سترى النور، وستوزع عبر عطاءات في الصحف قبل نهاية هذا العام. ولم ينس (كبر) أن ينفي ما أثير من شكوته ل(موسى هلال) لرئيس الجمهورية أو لنائب الأول، قائلا: لم اشتك موسى هلال لأي شخص، وامتلك المعلومات التي تمكنني من الرد، وإن كانت هنالك شكوى فالتكن لله عز وجل، وعن التعديلات التي يعتزم إجراءها المؤتمر الوطني قال (أنا مع المؤتمر الوطني في كل ما يقوم به (أنا معاه للطيش). بيان الفاشر احتفالات فاشر السلطان لم تنتهِ باستقبال واليها كبر، بل تواصلت بملتقى الاتحادات الطلابية للاتحاد العام للطلاب السودانيين الذي نظم ندوة (سنن النهوض والحضارة الفكرية) وليلة ثقافية أحياها الفنان بلال موسى والشعراء الفاتح إبراهيم بشير ومحمد سفلة وفرقة همبريب الكوميديا، وندوة سياسة، ولقاء مع الوالي ووزير المالية عبدو داؤود سليمان رئيس لجنة العمل الصيفي. وفي الليلة الختامية التي شرفها الوالي ورئيس الاتحاد العام للطلاب السودانيين المهندس محمد صلاح وحكومة الولاية تم تلاوة البيان الختامي، والذي احتوي على التوصيات، منها الاهتمام بالمحليات الطرفية، وتنظيم البرامج فيها، وتوحيد الخطاب الوطني للطلاب، والاهتمام بالقضايا الوطنية، وفتح الاتحادات للتنظيمات السياسية لرفع مستوى النقاش والحوار. خليل إبراهيم في معسكر أبوشوك لا تكتمل أركان زيارة مدينة الفاشر إن لم تشتمل على معسكراتها ومن أبرز هذه المعسكرات أبو شوك الذي أصبح جزءاً من المدينة بعد التطور الذي حدث فيه، فلم تعد مبانيه من الخيام والقش، بعد أن تم تشييدها بالمواد الثابتة، بل إن بعض المنازل أضحت أحسن من بعض المنازل داخل الفاشر، فتوجد المحلات التجارية بأنواعها المختلفة، بل توجد معارض سيارات داخلها. والتقبنا هناك بشيخ المعسكر إبراهيم خليل الذي داعبنا قائلا ما تعكسوا الاسم وتطلعوني خليل إبراهيم، أوضح لنا أن زيارتنا هي الزيارة رقم (730) في ترتيب الزيارات، فقد زارتهم وفود، ورؤساء دول أجنبية، وبرلمانيون، ووزراء خارجية، وفنانون، وممثلون، وغيرهم. وأوضح أن العدد بالمعسكر حتى العام 2007 كان حوالي (54) ألف نازح، ثم تناقص حتى وصل إلى (37) ألف نازح مؤخراً بفضل العودة الطوعية. وقال إن النازحين الآن يأكلون من عرق جبينهم ولا يعتمدون على إعانات المنظمات التي وقفت بعد طرد المنظمات المشبوهة، وأوضح أن حياتهم تغيرت وانتشر التعليم وبالمعسكر توجد المدارس الخاصة، وقد حصل بعض الطلاب على المراكز المتقدمة في امتحانات شهادة الأساس. إبراهيم خليل شيخ المعسكر أصر على اصطحابنا إلى سوق المعسكر والتي أضحت منافسة لسوق الفاشر. واختتم الزيارة بغداء،عبارة عن شواء من لحم الإبل والضان، ومشروب محلي لذيذ، يشبه الشربوت، عمل خصيصا لهضم اللحوم.