جلست على كرسي (مطرّف) في جانب الحوش، ضمن صفوف الكراسي الممتلئة بالسيدات والشابات من كل الأعمار، نتابع (الغنّاية) التي توسطت المجلس ورفعت عقيرتها بالغناء في مناسبة زواج إحدى قريباتي.. رويدا رويدا سرت (الهوشة) في بعض الحاضرات و(قامت) بهن فتوسطن الساحة وانهمكن في العرضي والبشري، وتسللت الأيدي نحو (المحافظ) لإخراج النقود، وتبارين في إلقائها في صحن الصيني (الغريق)، الذي وضعته (الغنّاية) على تربيزة أمامها كي تغري به النساوين على (النقّيط).. تشتت تركيزي بين متابعة (الربّة) العامرة أمامنا، وبين مراقبة العيال الذين انشغلوا بالجري والتنطيط غير بعيد عن مجلس الغناء، عندما اقترب مني صغيري (أسامة).. يبدو أنه كان يتابع ما يحدث في الساحة من بعيد، شدّني من طرف ثوبي كي أنحني وأسمح له بالهمس في أذني ففعلت.. فقال لي بإلحاح: يا ماما اديني ألف جنيه عشان أختّها للمرة دي في الصحن! تبسمت وأنا أحاول أن أخفي الغبطة والدهشة التي تملكتني من الجينات الوراثية، التي حملت لصغيري (الهوشة) وحب الشكر من بدري! اعتذرت له ب(ما شايلة لي ألف جنيه) ولكنه واصل في إلحاح: ما مشكلة إن شاء الله ألفين أو خمسة ألف.. بس أي حاجة يا ماما. تدخلت خالته التي كانت تقف بجواري وعبّرت عن سعادتها ب(هوشة) الصغير بأن نفحته ألفين (صم)، واشترطت عليه أن يذهب ليبشّر في الغناية قبل أن يضع الألفين في الصحن.. ففعل حلاة حلاتو... إصرار الغنّاية على وضع الصحن أمامها استحلابا للنقطة، عادة كانت تمارسها المغنيات والمداحات قديما، كما كانت البعض منهن يستعنّ بتقنية (الإيحاء التنقيطي) حيث يقمن بإعطاء بعض مساعداتهن نقودا قبل الحفل، كي يقمن بتنقيطهن بها أثناء الغناء وذلك بغرض تسخين السوق وتحفيز المعازيم والمعزومات على حذو حذوهن وتنقيط المغنية بالفيهو النصيب.. كان التعبير عن الطرب (نقدا)، مع الهوشة المصاحبة لسماع الشكر الذي تبرع في نظمه الغنايات، عادة قديمة يتشارك فيها الجنسان رجالا ونساء، وإن كانت رهافة قلوب الرجال وحساسيتها للطرب وسرعة استجابتهم للاستفزاز (الشُكري) أعلى من النساء.. حيث كان التعبير النقدي عن الطرب مصاحب ببعض العادات غير الصحية، فقد تعارف على أن يندفع (المطروب) لمنتصف الساحة فيصول فيها ويجول ما شاء له الله من عرضي وبشري، وعندما يبلغ به الطرب منتهاه يدخل يده في جيبه ويخرجها بالمقسوم من العملة الورقية، ثم يقوم بلحسها ولصقها فوق جبين الغناية! تطور نظام (التنقيط) مع الزمن والتأثر بثقافات البذخ البرجوازي الواردة، من اللصق في الجبين والخت في الصحن، إلى تكليل المغنّية بالعقود المصنوعة من رزم النقود ونثر مطر الكاش فوق رؤوس المغنيات، الذي قد يفيض فيتطاير ويسقط على حجور المحظوظات من المعازيم على طريقة (رزق المساكين من جيوب المطروبين). لذلك كانت المغنيات يستعنّ ب(اللقاطّات)، تكون مهمتهن هي الإسراع بتلقيط النقطة المتناثرة من تحت أقدام المدعوات قبل أن يقمن بهبرها. سمعت عن المبالغات التي صاحبت زواج ابنة أحد الأثرياء، حيث غُمرت المغنّية التي أحيت حنّة العروس بفيضان عارم من (النقطة)، التي انهالت عليها بالعملات الصعبة ورزم المحلي الجديد، حتى فاضت تلك الرزم وتناثرت على المدعوات، اللائي لم يترددن ثانية في حشرها داخل المحافظ، بعد اطمئنانهن لفتوى قلوبهن التي أفتتهن بأن مغانم حرب الطرب حلال زلال للمساكين والمسكينات.. لذلك لم يكن من المستغرب حضور المغنية لرقيص العروس في اليوم الثاني وهي مدججة بدستة لقاطّات.. صدق من قال (ناس عايشة وناس دايشة)!