د. عبدالعظيم ميرغني من وحي زيارة لومبوك يقول أبو الأدب الأمريكي مارك توين: "إني لأستطيع العيش شهرين كاملين على كلمة إطراء واحدة". ويورد سلامة موسى في كتابه "مقالات في الحياة والأدب" مقولة "إن جروح الجنود الظافرة تبرأ سريعاً، أسرع مما تبرأ جروح الجنود المهزومة"، ويعلل سلامة موسى هذه الظاهرة ويعزوها إلى أن الجندي الظافر يجد في قلبه من البهجة والسرور وفي جسمه من النشاط بفضل التقدير والثناء والتشجيع الذي يحيطه به الناس ما يجعل جروحه سريعة البرء. ومما يقوله علماء النفس في تأثير التقدير في نفوس الناس "إن أعمق مبدأ متأصل في الطبيعة هو رغبة الإنسان في أن يلقى التقدير". وهناك الكثير من القصص التي تحكى عن الآثار السحرية للتقدير والتشجيع والإطراء وما يحدثه من مفعول في النفوس. ومما لا شك فيه أن كل واحدٍ منا قد لمس تأثير التقدير (المعنوي أو المادي)، وما أحدثه من مفعول سحري في نفسه. فالتقدير والاعتراف بالفضل لأهل الفضل يقوي عزائمهم واستعدادهم لتحمل ما يلقى إليهم من التزامات واستيفاء ما يوكل إليهم من مهام. أوردت هذه المقدمة، بمناسبة ما عبر عنه أحد خبراء الأممالمتحدة من تقدير لهيئة الغابات وبعض منسوبيها الذين تعامل معه عند زيارته للسودان قبل بضعة سنوات لإجراء دراسة تتعلق بحظيرة الدندر، وكان ذلك على هامش مشاركتنا في اجتماع مجلس السياسات المعني بخفض انبعاثات الغازات الناجمة عن إزالة وتدهور الغابات التابع للأمم المتحدة والذي انعقد الأسبوع الماضي بجزيرة لمبوك الأندونيسية. لمبوك جزيرة تقع على بعد مسيرة ساعة ونصف الساعة بالطائرة من العاصمة جاكارتا، وجميع سكانها مسلمون، وتمتاز بجمالها الطبيعي الآخاذ وكرم أهلها وطيبتهم، إلا أنها تقع في منطقة حزام الزلازل، وقد علمنا أن اليوم السابق لمجيئنا إليها قد ضربها زلزال بلغ 6ر5 درجة بمقياس ريختر. وقد تضمن أول تنوير قدم لنا قبل بدء أعمال اجتماعنا مجموعة إرشادات تتعلق بموقع التجمع في حالة حدوث زلزال وموقع تجمع آخر في حالة حدوث تسونامي. أول ما يلفت نظر الزائر لأندونيسيا عندما يطالع إحدى الصحف المحلية، هو تصدر أخبار الغابات للأخبار المحلية. كانت هذه الملاحظة مثار نقاش الكثيرين ممن شاركوا في اجتماع مجلس السياسات المعني بخفض انبعاثات الغازات الناجمة عن إزالة وتدهور الغابات التابع للأمم المتحدة والذي انعقد الأسبوع الماضي بجزيرة لمبوك الأندونيسية. خبران رئيسيان تصدرا الأخبار المحلية الأندونيسية في الأيام الفائتة. الأول هو الحكم الذي أصدرته المحكمة الدستورية بإعادة عشرات ملايين الهكتارات من أراضي الغابات لأصحابها من السكان الأصليين بانتزاعها من براثن القطاع الخاص والحكومة اللذين خططا لتحويلها من غابات إلى مشاريع لإنتاج الغذاء والطاقة وصناعة الورق وأعمال المناجم. أما الخبر الثاني فهو إعلان حالة الطوارئ في الأجزاء الجنوبية من شبه الجزيرة الماليزية المتاخمة لأندونيسيبا وذلك بفعل حرائق الغابات المتعمدة التي أحدثها الزراع الأندونيسيون بغرض إزالة الغابات الطبيعية وإفساح المجال لمغروسات أشجار نخيل الزيت الذي يعد من المحاصيل النقدية الهامة في أندونيسيا. وقد تسبب الدخان المنبعث من هذه الحرائق في رفع درجة التلوث في الجو لدرجات خطيرة بلغت أكثر من ضعف المعدل العادي في ماليزيا مما حدا بالسلطات الماليزية إلى إغلاق المدارس وتوجيه مواطنيها بالبقاء في منازلهم وعم الخروج منها لفترات طويلة واستخدام الأقنعة عند الخروج. أما في سنغافورة فقد بلغ التلوث أعلى مستوى منذ نحو سبع سنوات لدرجة أن السكان شعروا بالاختناق من الدخان حتى داخل المكاتب المكيفة وفي مترو الانفاق مما أدى إلى توتر العلاقات بين إندونيسيا وجارتها سنغافورة، حيث انتقدت سنغافورة إندونيسيا بسبب تعاملها مع الحرائق وحثتها على اتخاذ إجراء حاسم وعاجل ووصفت الوضع بالخطير بينما وصف وزير إندونيسي سلوك سنغافورة بال"صبياني" بسبب شكواها من الضباب والدخان. هكذا هو حال الغابات فقد صارت من الأمور السيادية لتجاوز آثارها البيئية الحدود الإدارية والسياسية والجغرافية، ولأجل ذلك صارت من الأجندة ذات الأولوية في السياسة الدولية، وأصبحت من الأمور السيادية وهماً دولياً محفوفا بمخاطر التدويل مثله مثل حقوق الإنسان، ولأجل ذلك نص في مواثيق الأممالمتحدة ومبادئ القانون الدولى، أن الدول تتمتع بالحق السيادي فى استغلال مواردها الخاصة تبعاً لسياساتها البيئية وتتولى مسئولية ضمان كون الأنشطة الواقعة تحت ولايتها القضائية أو رقابتها لا تسبب أضراراً للبيئة فى دول أخرى أو مناطق تقع خارج حدود ولايتها القضائية الوطنية. ومما يجدر ذكره أنه حتى العام 1900 كانت الغابات الاندونيسية تغطي حوالي 145 مليون هكتار، 84% من مساحة البلاد المكونة من حوالي 17 ألف جزيرة. وبحلول العام 2010 تناقصت هذه المساحات لتصل إلى 94 مليون هكتار أي أن اندونيسيا قد فقدت حوالي 48% من مساحات غاباتها خلال الفترة 1900 - 2010 ومعظم هذه الغابات قد فقدت خلال الثلاثة عقود الأخيرة. وحوالي 73% من هذه الغابات التي تمت إزالتها قد تم قطعها بطرق غير مشروعة. ولأجل هذا اتخذت الحكومية الاندونيسية العديد من الإجراءات للحد من هذا القطع الجائر للغابات وكان آخر هذه الإجراءات اتفاقية وقعتها مع حكومة النرويج في العام 2010 تتسلم بموجبها اندونيسيا مبلغ مليار دولار أمريكي مقابل الحد من عمليات إزالة الغابات الطبيعية لأجل التوسع في زراعة أشجار نخيل الزيت في بعض محافظاتها الغنية بالغابات الطبيعية. يقودنا الحديث عن تأثيرات الغابات التي تتجاوز الحدود السياسية والدولية والتعويضات التي تتلقاها الدول نظير تضحياتها ببعض مصالحها الاقتصادية مقابل المحافظة على الغابات إلى التأثيرات المتوقعة جراء قيام سد الألفية وتأثيراته الإيكولوجية التي سيحدثها على ضفتي نهر النيل الأزرق بالسودان. هل يا ترى أوضحت الدراسات مثل هذه التأثيرات؟ وكيفية التعامل معها؟ ومن الذي يدفع الفاتورة؟ كان أحد المواضيع التي أثارها وفد السودان على هامش اجتماع بلومبوك مع بعض مسئولي منظمة الفاو، هو إمكانية إجراء دراسة لتقصي التغيرات الايكولوجية التي يتوقع أن يحدثها سد الألفية على طول مجرى النيل الأزرق من منبعه وحتى مصبه في بحيرة النوبة في منطقة السد العالي بالتركيز على التأثيرات الواقعة على غابات السنط النيلية التي تشكل أهم مواردنا الغابية المتبقية بعد انفصال الجنوب.