ديرين ديفليت في مصر أو ما جهلته الخرطوم عن القاهرة 1_2 محمد عثمان إبراهيم منذ انهيار إمبراطوريتهم العثمانية المرهقة، لم يكف الأتراك عن رفد جسد الفكر السياسي الإنساني بأساليب متنوعة لممارساتهم في شؤون الحكم وأنماط مقاومتهم لهذا الحكم. ومنذ انتصار العلمانية وتأسيس تركيا الجديدة، فقد ظل البلد متنازع الهوية يحكم وفق مستويين: مستوى رسمي صوري يمثله رئيس الجمهورية أو رئيس الوزراء، ومستوى في الظل تمثله (ديرين ديفليت) أو الدولة العميقة، وينوب عن هذه الجيش حامي العلمانية والدستور. قبل السبعينات لم يكن المناخ السياسي يسمح بالجدل حول هذه القضايا، لكن مع مطلع السبعينات وتزايد نفوذ اليسار وحركة الحقوق في الجوار (العثماني)، أصبح بوسع الأتراك الخروج إلى العلن تعبيراً عن متاعبهم الموروثة، فحاول المثقف اليساري ورئيس الوزراء الراحل بولنت أجاويد مقاومة ما يسمى بالدولة العميقة، لكنه عجز عن ذلك وكاد أن يفقد حياته ثمناً لتلك المحاولة، ثم عرف في وقت لاحق أن حزبه، نفسه، كان يضم في صفوفه قيادات مؤثرة من الدولة العميقة تم تأسيسها و(تمكينها) وترقية إمكانياتها خلال سنوات طويلة. ويعتقد سردار كايان الباحث في جامعة سيمون فريزر الكندية أن الدولة العميقة في تركيا، يعود تأريخها إلى جمعية الاتحاد والتقدم التي نشأت في إستانبول عام 1889م، من القرن قبل الماضي وهي تعمل من داخل مؤسسة الجيش التركي (ورقة بالإنجليزية بعنوان صعود وانهيار الدولة العميقة التركية). على هذا الأساس يمكن للمراقب تفهم الرعب الذي كان وزير خارجية تركيا أحمد داؤود أوغلو يُدين به قيام الجيش المصري بمساندة هائلة من جموع وأطياف الشعب المصري، بعزل الرئيس محمد مرسي وإنهاء محاولة إنشاء دولة إخوانية قابضة في مصر. لقد كان أوغلو يوجه رسالته إلى جيش بلاده بشكل خاص، وإلى الدولة العميقة في مؤسسات بلاده محذراً إياها من اتخاذ خطوة مشابهة ضد حكومة أردوغان، التي تواجه مصيراً مشابهاً بعد كشف الغطاء عنها من قبل الطبقة الوسطى التركية، التي سئمت دكتاتورية حزب العدالة والتنمية المستندة إلى تهديد مستقبل تركيا في الانضمام للاتحاد الأوروبي!. بعبارة أخرى فإن ممارسات أردوغان المستفزة للطبقة السياسية التركية، تستمد وجودها من عدم قدرة الجيش على عزله لأن أي انقلاب عسكري سيعيد مفاوضات تركيا للانضمام إلى مربع الصفر، وهذا أمر يضر بالشعب كله. هذا بالطبع سلوك انتهازي حين تلعب جماعة ما بمصالح الشعب كله لتجني بعض المكاسب الهزيلة مثل السماح بارتداء الحجاب في مؤسسات الحكم، أو السماح لعضوات البرلمان بارتداء البنطال!. يتم تعريف الدولة العميقة عادة بأنها مجموعات متفرقة صغيرة من أصحاب المصالح داخل مؤسسات الدولة والمجتمع، تعمل بشكل غير متناسق فيما بينها وتعي مصالح ذات طبيعة مشتركة أو متشابهة، ووفقاً لهذا التعريف ندرك أن وجود مثل هذه الدولة ليس أمراً مستغرباً، ويمكن جسّه سواء في الولاياتالمتحدة أو بريطانيا أو السعودية أو إسرائيل أو مصر. ها قد جئنا إلى مصر الدولة العتيقة المتجددة وذات الطبقة السياسية المتشابكة المصالح. منذ ثورة يوليو 1952م، أعيد تأسيس الدولة المصرية على نسق جديد يحول عمادها من طبقة الأثرياء الأجانب وحلفائهم في الداخل (الباشوات)، إلى طبقة أخرى من الباشوات الجدد (ضباط القوات المسلحة الكبار) وحلفائهم من الطبقة السياسية والاقتصادية والمهنية الرفيعة في المجتمع. ظل الرؤساء الثلاثة الذين أفرزهم نظام يوليو يحكمون البلاد بتفويض شعبي مختلف عليه وتفويض مطلق من الدولة العميقة الجديدة. خلال السنوات الستين الماضية تم تصميم جهاز الدولة كله بحيث يكون حامياً للقيم المتفق عليها داخل الدولة العميقة، وهي قيم سمحة أبرزها حماية الوحدة الوطنية للشعب والأرض، وحماية البلاد من أي عدوان إسرائيلي، ويدخل ضمن هذا تقوية الجيش والحفاظ على أعداد هائلة من الجنود الاحتياطيين يوفرهم نظام الخدمة العسكرية الإلزامية التي تعتبر المدخل الأساسي لنيل المواطن لحقوقه، وحماية مياه النيل، والحفاظ على مدنية الدولة مع الإبقاء على عسكرة قياداتها (الرئيس والمحافظين) واحترام التراتبية. ضمن هذه القيم يحقق الحماة مكاسب فردية صغيرة مثل توارث المناصب العامة وحماية المصالح العائلية والعشائرية، ويمكن قراءة هذه المكاسب في أسماء ضباط الجيش أبناء الضباط والوزراء أبناء الوزراء والسفراء أبناء السفراء ورجال الأعمال المتحدرين من عائلة ثرية وهلم جراً. هذه المكاسب لا تغلق الباب أمام جموع أفراد الشعب من الحاصلين على التأهيل اللازم والقادرين على تجاوز اختبارات محددة مؤسسة على حماية منظومة القيم التي أشرنا إليها سابقاً. يمكننا كمثال أخذ وظيفة ضابط شرطة التي لا يمكن لمصري لديه قريب مدان بجريمة جناية أن يحصل عليها وفق عرف غير رسمي، ووفق أعراف مشابهة يصعب على الضابط القبطي أن يخدم في الجيش في رتبة لواء، أو أن يعمل أحد أبناء الإخوان المسلمين أو الشيوعيين في وظيفة بوزارة الخارجية. هذه هي مصر شئنا أم لم نشأ. *** تتعامل الطبقة السياسية السودانية كتابع عاجز للنخبة المفكرة في البلاد مع مصر كلها على أساس من التنميطات السلبية الساذجة المبنية على تجارب ذاتية سمتها الغالبة العجز عن التعاطي الإيجابي داخل المجتمع المصري. من هذه التنميطات السالبة الساذجة أن المصري (أي مصري) ضعيف أمام المال ويمكن إغراؤه، ووفقاً لهذا التنميط العنصري يخسر آلاف السياح السودانيين أموالهم في القاهرة وغيرها فيستخرجون تنميطاً آخر، وهو أن المصريين محتالون. يتهم المصريون من داخل الطبقة السياسية السودانية ب(الفهلوة) وهذه قراءة متعسفة لطريقة مجتمع تحتشد لغته بألقاب التوقير مقابل مجتمع ينادي فيه الناس بعضهم البعض بأسمائهم المجردة. الألقاب التي يبذلها المصريون في التعاطي مع بعضهم ومع الآخرين وليدة إرث وثقافة وحضارة مختلفة. تتواطأ الطبقة الثقافية على التباهي بالعداء لمصر وكراهيتها، تأسيساً على أن المصريين (يحتقرون) السودانيين، ويحشد هؤلاء نماذج من الصحف أو الأفلام أو المسلسلات أو غيرها من المنتجات الإبداعية الفردية، ويتناسون أن إستاداً كاملاً من المشجعين السودانيين يمكن أن يصف المصريين كلهم ب(أولاد الرقاصات)!. في العادة تبني النخب الثقافية مواقفها وتصوراتها على معطيات لا يعتد بها مثل المشاهدات التلفزيونية والسينمائية، وفي الوقت الذي تتوفر فيه عشرات المجلدات المصرية عن العلاقة مع السودان، يعجز المرء عن الحصول على كتاب واحد (محترم) كتبه قلم سوداني عن العلاقة مع مصر! والحال كذلك؛ صارت المزايدة بكراهية مصر (سبوبة) للتكسب الوطني السوداني، وصار الكتاب والصحافيون يتنافسون في الإساءة لمصر فينالون التصفيق، وهذه جماعة شبيهة بتلك التي وصف أستاذنا البروفيسور عبدالله علي إبراهيم كتابها بأنهم "لا يخاطبون قارئاً حسن الظن بعقله وفؤاده كما الأصل في الكتابة، بل هي أقرب للأوراد بركتها في بطنها لا في نصها لأن النص فيها لا يخضع لفن الكتابة وأعرافها وذوقها، بل هو لعنات تتوالد عند كل موقف". هذه الأيام، يقود طائفة المثقفين المتذمرين بكراهية مصر الدكتور سلمان محمد سلمان خبير قوانين المياه حتى صار له معجبون وحواريون وانطلق مؤخراً بفضل جماعة من قرائه إلى فضاءات جديدة شملت موقعاً على شبكة الإنترنت وندوات للجمهور. أفكار سلمان في مجملها تنطلق من فرضيتيْن أساسيتيْن وهما معاداة مصر، ثم تخطئة كل من شاء له حظه العاثر أن يعمل في ملف المياه في السودان عبر التأريخ، فجميعهم في نظر سليمان (جهلة) يستحقون التقريع. استزاد الجمهور سلماناً فتورط في تزويده هذا الجمهور بجرعات مستمرة صارت مكررة، وبلغ به الشطط أن دعا لما أسماه البعد الأخلاقي في توزيع مياه النيل، وكأن الأخلاق هي أحد عوامل العيش في عالمنا هذا! أفكار سلمان بوفرتها ومنطلقاتها المتماثلة تحتاج لقراءة منفصلة سنحاول القيام بها إن تيسر. في خضم مهرجان معاداة مصر لم يرق لي أن أرى الباحث الرصين د.النور حمد يتورط في هذا وهو أحد مثقفينا القلائل ممن يهتمون بالكتابة والتجويد وإنعام النظر إلى القضايا، فقد رأيته وأستمتع إليه يتحدث في سلسلة حلقات تلفزيونية ضمن برنامج (مراجعات) الرفيع على تلفزيون النيل الأزرق، وجاء دور الحديث عن مصر. في الحلقة السادسة أأأنكر د.النور على السودانيين علاقاتهم مع مصر، وزعم أن إثيوبيا هي الأقرب إلينا. وفيما أقر في ذات الحلقة بأن ذاكرته الثقافية (مثل ذاكرة أغلب أهل الوسط في السودان) عربية وأن اللغة الوحيدة هي لغته الوحيدة وظل يقيم الحجج كلها بها ويستعين بالشعر والثقافة العربية فإنه أنكر كل ذلك على نفسه حين جاء إلى معرض المقارنة بين الحبشة ومصر. أقر الباحث بقربه من العالم العربي كله لكن أنكر قربه من مصر، وكيف يكون العرب عرباً دون مصر؟ هل نسي ذلك؟ قال إن إثيوبيا هي الأقرب إلينا رغم أنه لم يقدم لنا بيت شعر واحد بالأمهرية أو أي من اللغات الإثيوبية ونسي أننا جميعاً نشكل عبئاً على الثقافة المصرية حتى في استعانتنا بالأمثال حيث تقصر ثقافتنا المحلية عن ذلك. أكبر ثغرة تبينتها في ذلك الحوار، هي تجاهل د.النور لوشائج الدين والصلات السياسية وهذا غير مقبول من مثقف يميني ينتمي إلى تيار فكري إسلامي تجديدي ويشتغل بالنقد السياسي، لكني رأيت ثقوباً أخرى في أطروحة الباحث المدقق وسآتي على حديثه المفصل عن مصر مرة أخرى في سياق منفصل. ينطلق المثقفون، في كثير من الأحيان، من مواقف دونية إزاء مصر، وإلا فكيف يمكن تفسير تزاحم البكائيين على حوائط الصحف والإنترنت، وهم يشتمون الممثل الفكاهي أحمد آدم (وهو محدود الصيت بالمناسبة) لأنه أساء في عرض تلفزيوني له إلى السودانيين؟ كيف يمكن تفسير بكائيات هؤلاء ضد السياسي المعروف أيمن نور الذي قال في اجتماع خاص أمام رئيس الجمهورية إن موقف السودان بالنسبة لقيام إثيوبيا ببناء سد الألفية (مقرف)؟ هذا حديث جرى في السر وإذا كان فريق الرئيس المصري قد خان عهد (أمانات المجالس) فإن الطعن ينبغي أن يوجه له لا لرجال يحسبون أنهم في مأمن فيتحدثون بطريقة (مرتاحة) لا تعقيد فيها عما يرون. هاكم الكلام من قصيره "موقف الحكومة السودانية إزاء الأنشطة الإثيوبية في منابع النيل موقف (مقرف) للغاية بالنسبة لمصر وللسودان على حد سواء". أي سؤال؟ يتحدث الناس عادة من وراء ظهور من يتحدثون عنهم لكن مثل هذه الأحاديث لا يؤخذ بها خصوصاً في السياسة، فالمتحدث مسؤول فقط عن حديثه العلني، ودونكم أحاديث كثيرة تم تسجيلها دون إذن الرئيس الأمريكي السابق بوش، أو حليفه رئيس الوزراء البريطاني بلير، ومؤخراً تم تداول شريط مسجل على الإنترنت يتحدث فيه الرئيس أوباما بشكل غير مناسب عن أمير قطر السابق الشيخ حمد بن خليفة أمام بعض قادة الحزب الديمقراطي، لكن مثل هذا الحديث لم يتحول إلى أزمة دبلوماسية! اتركوا كل هذا واسألوا عن لماذا لم تتحول وثائق ويكيليكس إلى وقود لأزمات وطنية يقوم فيها كتاب صحف العالم كله بالإساءة إلى أمريكا. في السودان ذاته ورد في وثائق ويكيليكس أحاديث ساسة كثر ورجال مجتمع واقتصاد أساؤوا لبعضهم وتحدثوا عن رئيس الجمهورية بما لا يرضيه، لكن لم تتأثر العلاقات بين رجال الطبقة الحاكمة لسبب بسيط وهو أن لا أحد في عالم السياسة يحفل بأحاديث النميمة!. www.dabaiwa.com