دفع الله محمد دفع الله، صديق وزميل دراسة بالنيل الأبيض الثانوية العليا بالدويم، كان من المتميزين أكاديمياً ومن مرشحي الدفعة للالتحاق بجامعة الخرطوم التي كان التنافس عليها حينذاك شديداً لمحدودوية فرصها. فوجئت بدفع الله يحدثني في ليلة آخر يوم من أيام امتحانات الشهادة الثانوية قبل أن ينفض سامرنا في اليوم التالي، عن نيته في عدم الإلتحاق بالجامعة رغم ثقته في إمكانية الالتحاق بها من واقع أدائه في الامتحانات وأنه سيسعى بعد إعلان النتيجة للالتحاق بسلك التدريس وبالتحديد في الجزيرة الخضراء، حيث سيتزوج ويعيش بقية حياته. ثم ختم دفع الله حديثه بتحدٍ ورهان بقوله (لن تسمع مني أو عني وسوف لن تلتقيني ثانية بعد اليوم). أذكر أنه بعد أن زال عني تأثير المفاجأة مما صرح به من حديث تمنيت له التوفيق ثم أشرت إلى نجم بارز في ناحية من السماء وقلت: إن وفقك الله في مسعاك فانظر ذلك النجم في مثل هذا الوقت من المساء كلما سنحت الفرصة بذلك، فربما نلتقي عنده بالنظرات في بعض الأمسيات. لم ألتق بدفع الله أو أسمع عنه من ذلك اليوم من عام 1975 ولكن في بعض الأمسيات حين أرسل نظري إلى ذلك النجم الذي تواعدنا أن نلتقي عنده يتراءى لي أنه في الأحيان يكون أكثر لمعاناً وحينها يساورني شعور بأن دفع الله لا بد أن يكون قد سبقني (بالنظر) إلى هناك. غالب ظني أن دفع الله قد نجح في مخطط حياته وامتهن التدريس ورزق بزوجة صالحة وبنين وبنات صالحين وصالحات يقضي معهم ومعهن ومع طلابه وزملائه المعلمين حياة سعيدة ومثمرة، فدفع الله نموذج لأولئك الذين يعرفون ماذا يريدون من هذه الحياة، ويحيونها بالطريقة والكيفية التي يريدونها. الآن، عندما أنظر إلى الدفعة 1975 بالنيل الأبيض الثانوية العليا حتى تاريخ اليوم، بعد مرور ثمانية وعشرين عاماً بالتمام والكمال على تخرج "الدفعة، نجد أن الزمن خلال هذه الفترة قد أعمل "عمائله" فيها. فهناك من أقبلت عليه الدنيا، ومنهم من أدارت له ظهرها، ومنهم من قضى شهيداً أو على فراش المرض. وعموماً فإن الغالبية من أبناء الدفعة قد أبلوا بلاء حسناً في حياتهم خلال هذه السنوات التي شارفت الأربعة عقود. هناك كثيرون من شاكلة دفع الله محمد دفع الله حددوا أهدافهم في الحياة من البداية وساروا في دروبهم قانعين وهانئين بما قسمه لهم الله. وهناك من أهلته مقدراته ومواهبه إلى الترقي في المناصب العامة وتبوأ مكاناً لائقاً في المجتمع. وهناك من بدأ حياته مرتبكاً، مشى في طريق ثم تركه ليسلك طريقاً غيره، جرب شيئا ثم اتجه لغيره. بالأمس التقيت بصديق من هذه الفئة من أبناء الدفعة حكايته أشبه بحكاية "لاري داريل" في قصة "حد الموسى" ل"سومر ست موم". فصديقي هذا أو "داري لاريل" هذا لم يأبه بما حقق من نجاحات في حياته العملية أو بما أوتيه من ثروة وجاه في سبيل البحث عن مبدأ يؤمن به، فرحل عن موطنه "باريس" إلى أقاصي الشرق بحثاً عن إجابة لما يجول في خاطره من أسئلة عن حقيقة ما يحيط به. فقد كان "لاري داريل" يفتقر إلي الإيمان النافذ إلي أعماق القلب علي أساس من الإدراك الصحيح. كان يريد أن يعرف ما إذا كان هناك إله من عدمه؛ وأن يعرف السبب في وجود الشر؛ وأن يعرف ما إذا كانت الروح خالدة أم أن الحياة تنتهي بموت الإنسان. فمثلما سعى "لاري دوريل" للتغير وإعادة صياغة أهداف حياته بالبحث بإخلاص عن الحكمة حتى عثر علي أول الخيط للإجابة عن أسئلته وإماطة اللثام عن حيرته بين حنايا الشرق. فكما سعدت بلقاء هذا الصديق واطمأننت عليه بعد الوصول الآمن السعيد أود أن أسعد بلقاء دفع الله محمد دفع الله، وأنا أشد ما أكون تشوقاً للقياه أولاً للاطمئنان عليه، وثانياً لأهنئه على كسب تحدي ورهان ثمان وثلاثين سنة. من يدلني على دفع الله محمد دفع الله أو يأتيني بأخباره؟ دفع الله هل لا زلت هنا؟! مع عاطر التحايا لزملاء الدفعة.