كي ما تفهم كلمات شخصٍ ما، ينبغي أن تنظُر إليها منسوبة إلى مسالكه في الحياة، فالكلمات تفقد اتجاهاتها في الفراغ. وهذا السِّفر القيِّم الذي يعكس اهتماماً موسوعياً بقضايا المجتمع والسياسة والاقتصاد والدبلوماسية، هو تعبيرٌ أمين عن سيرة رجلٍ فذ الشخصية. لو طلُب مني الإتيان بمختصرٍ مفيد يُعبِّر عن حياة بشير البكري، لقلتُ: «إنه رجلٌ لم يجد الوقت الكافي ليُضيِّعه»... ووجه الطرافة في هذا المختصر، هو أن بشير البكري، بمقاييس العادة والمتوسط، قد وجد الوقت الكافي حقاً، فهو قد قطع في الحياة مشواراً بعد الثمانين. لكن الناظر إلى جَدِّه واجتهاده، ومشاركاته في الحياة العامة، وإلحاحه على الآخرين، ممَّن هُم دونه عمراً طويلاً، أن يكونوا مشاركين فاعلين في شئون بلدهم ووطنهم العربي الأوسع، وإلحاحه هو على أن يشارك في الأحداث، وأن يقول فيها كلمته حتى اللحظة الأخيرة من حياته، سيفهم مغزى المختصر الذي اخترته له. لقد لفت نظري وأنا أقرأ مذكرات السياسي السوداني المرموق و”خضر حمد“ ذكره لمقابلته لبشير البكري في الجامعة العربية التي عمل فيها في منتصف أربعينات القرن الماضي. وكانت هذه الحقيقة المخفيَّة في بطون الكُتب مدعاة للمُمازحة بيننا، فهو كان يسيراً عليه أن يخفي عمره الحقيقي الذي كان يبدو أقل كثيراً من الحقيقة، يعينه على ذلك نشاطه الجم، فكان يسر إليَّ، مبتسماً، كالعادة، بأنني الوحيد وسط الجالسين الذي يعرف عمره، وذلك بسبب القرابة بيننا. وللحقيقة، فإنني لم أكن أعرف، لكنه تعجَّل الاحتراز عن الإفصاح ظنناً منه أن لي من بين قرابته من يبلغني بالحقيقة. والأعجب من قدرته البدنية على المشاركة في المناشط العامة والكتابة المثابرة، هي مرونته الفكريَّة. إنني لم ألحظ عليه ذلك الجمود في الآراء والتحجُّر الذي يحرم الإنسان من أن يستسيغ نشوة فكرة جديدة، ما أن يُداني الرجال الخمسين من أعمارهم. وهذا الكتاب يُعبِّر عن تلك المرونة، كما سيلاحظ القارئ، بتغطيته لموضوعات عديدة ومتنوِّعة، يتناولها الكاتب، على تعدُّدها، بقدرٍ متساوٍ من التركيز والتقليب. أعلام المجتمع السوداني وأفذاذه كُثر، لكن القليل القليل يُعرَفُ عنهم في الدائرة العربية والدائرة العالمية الأوسع. لم ينجُ من ذلك المصير إلا قلة قليلة من الأدباء أو الساسة. ومن تلك القلة كان بشير البكري، الذي عرف السودانيين وغير السودانيين، وكتب للسودانيين وغير السودانيين، وصادق السودانيين وغير السودانيين. وهو قد تحرَّك بصورة أكبر في عوالمٍ ثلاثة: السوداني والعربي والفرانكوفوني. وقد ظلَّ محتفظاً بعلاقاته المتميِّزة في تلك العوالم حتى اللحظة التي فارق فيها الحياة. إن مقدِّمة هذا الكتاب تحوي عرضاً بليغاً وشيقاً ووفياً لسيرة الراحل وخصائصه وفضائله، بما لا يدع مجالاً كبيراً للإضافة. سوى إضافة صغيرة، لكنها مهمَّة، لأنها تُعبِّر عن ميزة خاصة حقاً. تلكم هي القدرة على التواصُل السلس مع الأجيال المختلفة. أصفه ب”السلس“ لأنه كان كذلك فعلاً، بلا تكلُّف أو عنت أو تصنُّع. كانت للأستاذ بشير تلك الملكة التي تمكِّنه من اختراق حواجز العُمر من أجل التفاعُل البناء مع كل جيلٍ ممَّن يصغرونه. إن إعداد هذا السفر هو عملٌ من أعمال الوفاء والبر، وهما صفتان امتلكهما صاحب هذه المقالات. وهو يأتي في منعرجٍ حَرِج من تاريخ السودان، بما يعطي مذاقاً خاصاً لأفكار صاحبة، خاصة في الموضوعات المتعلقة بالوحدة والانفصال، وتلك المتعلقة بالهوية. وصدور هذا الكتاب توثيق مستحق لفترات مهمة من تاريخ السودان والجوار العربي. على خلفية تلك الحقائق، وعلى خلفية شخصية صاحبه، ينبغي أن يلج القارئ إلى ثنايا الكتاب. غازي صلاح الدين رسالة من السيد عمرو موسى فى ذكرى الراحل الدكتور بشير البكرى يحزننى أن أوجه هذه الرسالة تأبيناً للراحل العظيم الدكتور بشير البكرى الدبلوماسى والسياسى السودانى البارز، فكم كنت أود أن أحييه فى حضوره وأن أعبر عن تقديرى له فى حياته. ولكن قضى وهو يعلم أننى اعتبرته على الدوام أبناً باراً لوادى النيل، لم يهتز إيمانه بوحدة هذا الوادى وبعمق العلاقات السودانية المصرية. واليوم هو مناسبة نسترجع فيها بكل الأعتزاز حياته الزاخرة بالعطاء العلمى والثقافى والاعلامى، وخدماته الجليلة لوطنه والأمة العربية وافريقيا، منذ تخرجه من كلية الحقوق بجامعة القاهرة، وعمله بالمحاماه والصحافة فى مصر و السودان، وحصوله على الدكتوراه من جامعة السوربون، ثم تقلده العديد من المناصب الرفيعة فى السلك الدبلوماسى السودانى، فضلاً عن المناصب الدولية، وفى مقدمتها عمله بمنظمة اليونسكو التى أختارته مديراً لمركز سرس الليان التابع لها بمصر، وكذلك عضويته بمجلس ادارة جامعة الأممالمتحدة و توليه منصب نائب رئيس مجلسها. لم يغب عن الفقيد الكريم طوال هذه المسيرة الاهتمام بقضايا وطنه وأمته. نعم كان الدكتور البكرى على الدوام جسراً للتواصل وداعياً للوفاق برؤية انسانية مع التمسك بالسماحة والبعد عن التعصب، مما جعله قدوة يحتذى بها. رحم الله الدكتور بشير البكرى بقدر ما قدم لوطنه ولأمته والانسانيه، وأتوجه بكل التقدير والتحيه لأسرته وتلاميذه ومحبيه وللشعب السودانى الشقيق. عمرو موسى