مراجعات مع الكاتب والمفكر د. منصور خالد (2): لست انطوائياً، ولست غوغائياً الأسرة بالنسبة لنا هي الخلوة عبد الله خليل ليس رجلاً وإنما هو رجال في رجل الترابي في فترة الجامعة لم تكن له أي اهتمامات سياسية واضحة لم أكن ثورنجياً أبداً كنت أشعر بعزلة وسط مجموعة كبيرة من الآخرين يظل الدكتور منصور خالد مثار جدل كسياسي خاض غمار السياسة السودانية بالممارسة وكمفكر يضع أصبعه على مواقع الفشل ويساهم بالتوصيف لكل ما يراه مخالفاً لحجته، فالرجل كتب العديد من الكتب التي تجوس في مناطق الوعي السياسي والاجتماعي السوداني مقدماً خلاصة معارفه للخروج من ما يسميه ب"النفق المظلم لحال السياسة السودانية. ومنصور خالد من بناة معبد مايو "على حسب تعبيره" ويسميه البعض بالمنظر الوافد، خرج من مايو ليصليها ناراً ولهيباً وعاد بعد انتفاضة 1985 لينضم إلى صفوف الحركة الشعبية مستشاراً لجون قرنق، ليستقر به الحال بعد كل هذا المشوار الحافل مستشاراً لرئيس الجمهورية، لكل ذلك استضافه الزميل الطاهر حسن التوم في برنامجه "مراجعات" وسجل له حلقات فى العام 2007. * أنت قلت في حوار صحفي "دون شك فأنني متأثر بمواريث المتصوفة الكبار لأنها تحوي قدراً كبيراً جدا من التسامح"، لكني لا أجد هذا التسامح عندما أقرأ لك في الكتب؟ يتوقف حكم كهذا على تناول كتبي من خلال قراءة انتقائية أو اختزالية، ولو أنك قرأتها بتمعن وبدون اصطفاء ستجدني أشيد بالكثيرين، فأنا رغم نقدي لأنظمة الحكم في الماضي التي أسميتها أنت نيابية وأسميتها ديمقراطية فإنني كتبت كثيرا أشيد بعدد كبير من الرجال في تلك الفترة. * أنا لم أعن كل ما كتبت فأنت بالطبع لديك أصدقاء وأعداء شأن كل الناس، ولكني أشير إلى أحاديثك في حق مخالفيك والتي دائماً ما تتسم بمفردات فيها قسوة كبيرة وصلت مثلاً إلى أن تقول: (وخاصة وأغلب من ولج في السباب أخلاط لم يحسن آباؤهم تأديبهم وسنتناول هذه الأخلاط كعينات معملية نحلل عبر تشريحها محنة السودان الحقيقية، تماما كما يشرح علم الحيوان في معمله الضفادع والسمك العلجومي، ونعترف نفعل هذا بعض نصح الصحاب لنا أن ندع هذه الطحالب الآدمية خاصة من بعد أن طواها النسيان ونفعله رغم نصح الناصحين بأن نعد لكلب السوء كلبا يعادله لان أكثر ما يذكر به تطاول هؤلاء النفر هو كلاب الأحياء الواحدة منهن تعدو لاهثة وراء الحافلة تنبح دون أن تدري ما الذي تصنعه بالحافلة إن أمسكت بها) وغير ذلك، لم أشأ أن أتي بأسماء محددة فهذا مثال عام - لكنني اشعر بأن تسامح المتصوفة يغيب في مثل هذه اللغة. تسامح المتصوفة أعني به أن هناك روحا تسود بصفة عامة في تصرفات الشخص نحو الحياة ونحو الأحياء، ولكن إذا رأيت صراعات المتصوفة على مستوى في الأفكار قد يصل بهم الحال أن يذبحوا بعضهم البعض. فالحلاج قد ذبحه المتصوفة... * ولكن نموذجك هو محي الدين بن عربي هو لم يكن من هؤلاء القساة؟ - صحيح، لكن لو دخل ابن عربي في صراع مع هذه الأنواع التي ذكرتها لفعل بهم أكثر مما فعلت. * هذه المفردات الحادة تنبأ عن شخصية حادة أم أن هذه الحدة هي حالة تنتابك؟ - لا أظن الحدة هي حالة تنتابني ولكنها نابعة من قضية الشفقة، فمشكلة السودان هو هذا النوع من البشر مثل ما ذكرت لك، أنهم الرجرجة التي وصفها الإمام على (الذين إذا اجتمعوا ضروا وإذا تفرقوا لم يعرفوا) هؤلاء الناس لا اثر لهم في الحياة إذا تفرقوا، اجتماعهم على الباطل وإشاعة الباطل هو الذي يؤدي إلى كل المشاكل التي نعاني منها في السودان وبالتالي لابد من التعامل معها بحدة، فهذا الأمر تقتضيه ظروف معينة حيال طائفة معينة. * هل (يركب) قلم د.منصور شيطان؟ - أنا لست مثل زكي مبارك كما وصفه طه حسين بأنه كلما جلس ليكتب ركب رأسه عفريت، لكن بدون شك اغضب كثيراً من بعض التصرفات. *هل لهذا الغضب أثر من جعليتك؟ لا أظن ذلك. * ألا تندم عندما تعود لتقرأ ما كتبته من قبل؟ ألا تشعر بندم حيال هذه القسوة؟ في بعض الحالات اشعر باني كنت قاسياً أكثر مما يجب. * الناس يعتدون بأنسابهم وقبائلهم هل تعتد بأنك جعلي عمرابي؟ إن الفتى من يقول ها أنذا، وليس الفتى من يقول كان أبي، ولكنني انتمي إلى عشيرة من حقها أن تفخر بانتمائك لها، لأنها لعبت دوراً مهماً في تاريخ السودان خاصة في نشر العلم، ومن حقها هي أن تفخر هي بأبنائها كجدنا المؤسس شيخ حامد أبو عصا، هو ابن لسيدة لها أخوات خمس أنجبهن حمد ود دنانة والخمس كل واحدة منهن أنجبت رجلا ذا باع، شيخ حامد، إدريس ود الأرباب، عبد الله جماع، سوار الذهب، عبدالله قرشي، الإسلام في السودان ما كان ليقوم لولا هؤلاء الرجال، وانه يتكئ على قباب هؤلاء الرجال وبالتالي عليها أن تفتخر. * أنت كتبت عن أجدادك في الثلاثية الماجدية هل هذا من باب الاعتداد بالنسب؟ بالطبع، ولكن أيضا تأتي من باب التعريف بمن كتبت عنهم، فهم رجال قد لعبوا دوراً مهماً في تاريخ السودان وخاصة في نشر العلم والأدب ولكن لم تتح لي الفرصة لنشر آثارهم إلا في حالة واحدة ديوان الشيخ عبدالعزيز الدباغ نشر مرة واحدة في الثلاثينيات ولم يُعَد نشره، والغريب انه نشر جزء كبير منه في مجلة الأزهر، ونشر أيضا في المغرب، فقد كان الرجل تيجانياً وله علاقات وثيقة مع شيخ التيجانية في المغرب وأيضا في ألبانيا أيضا له صلات بمفتي ألبانيا، وهذا الجزء من التاريخ لابد أن يكتب للناس ولذلك نشرت السيرة الذاتية للشيخ محمد عبدالماجد كما رواها لي ابنه الشيخ خليل وسجلها، وأيضا هناك ضرورة للحديث عن العلاقات الأسرية القوية بين الأسرة الماجدية والقريبية، فالشيخ قريب الله كان شيخا ملازما للأسرة وأيضا كان هناك ضرورة لإبانة ذلك فيما كتبت، والتوثيق أيضا من الأسباب التي دفعت لذلك. * أول مدرسة يدخلها الإنسان هي الأسرة أين نجد بصمات الوالدين في منصور اليوم؟ - الأسرة بالنسبة لنا هي الخلوة، خلوة الفكي محمد وهذه كان لها اثر كبير علي في شيئين، فقد حفظت أجزاء من القرآن لان هذا كان مقررا، لكن أيضا التجويد كان له اثر كبير في تكويني، بالرغم من أنني لم آخذ منحىً أدبيا في دراساتي ولكنني حرصت على الاستمرار في ما يتعلق بعلوم اللغة والأدب، لم أدرس الفقه إلا كطالب في كلية الشريعة والقانون. في بيئة الأسرة كانت تعقد حلقات الدرس يومياً في الفقه والتوحيد، وكنت أتلصص على تلك الحلقات. * وبمن تأثرت داخل أسرتك الصغيرة؟ ربما أكون قد تأثرت بعدد كبير من الناس بجانب ما يتعلق بدراساتي الدينية كان بعض أعمامي يهتمون بالأدب فكنت أتلصص على مكتباتهم اقرأ مجلة الرسالة والثقافة والأهرام، في بعض المرات نبغ شعراء ولكن لسوء الحظ لم ينشروا ما كتبوا ولكن كانت لهم حوبات في الكلية فقد تجد فيها أدبا لبدوي سليمان، وبالمناسبة الشيخ محمد أطلق على كل أبنائهم أسماء فقهاء المالكية الشيخ عليش، الدسوقي.. أيضا عدد آخر من أسرتي توجه للسياسة مثل الخال الصاوي فكان له فضل كبير علي فهو من الأشخاص الذين لعبوا دورا مهما في إنشاء مؤتمر الخريجين عندما كان في ود مدني وكان جزءا من اللجنة. * حدثنا عن مصطفى الصاوي؟ ما هو واضح أن مصطفى الصاوي كان اتحادياً كان مجموعة الاتحاديين التي قامت على مدرسة أبو روف برغم أن جزءاً منهم انتقل إلى ود مدني، وكانوا جميعهم ليسوا فقط سياسيين بالمعنى السائد وإنما كانوا سياسيين مفكرين وكانوا جميعاً ينتمون إلى المدرسة الفابية (مدرسة الاشتراكية غير الجانحة) وظلوا يلعبون دوراً مهماً في وسط المجموعة الاتحادية إلى أن تكون الحزب الوطني الاتحادي بعد اجتماع القاهرة ثم انشقوا فيما بعد لخلاف بينهم وبين قياداتهم، الصاوي نأى بنفسه عن التباري في ميدان السياسة بمعناها السياسة العملياتية، كان يركز على وظيفته أكثر من الجانب السياسي وفي داره وجدت الكثير من الكتب التي فتحت لي المجال. * كيف كنت تظفر منه بهذه الكتب؟ كان خارج الخرطوم في مدني وكانت لديه مكتبة في الدار وكان ككل أهلنا حريصا جداً للكتاب فكان لا يسمح لأحد باستخراج أي كتاب من المكتبة ولكني كنت اعرف كيف اصل إليها، وفي هذه الفترة قرأت كل كتب طه حسين والعقاد وأنا مازالت في الثانوية. * بأيهم كنت أكثر إعجابا؟ طه حسين في أسلوبه والعقاد في أفكاره. * تأثير الأسرة من الناحية الفكرية كان يمكن أن يقودك لتصبح فقيهاً متصوفاً وبتأثير الخال كان يمكن أن تكون اتحادياً، فكيف نجوت من المصيرين؟ هذا مؤشر آخر أظنني أشرت له في فترة الدراسة أو عقب تخرجي من دراستي في وادي سيدنا وانتقالي إلى الجامعة اتيحت لي الفرصة التعرف على أستاذ عبد الرحيم العميري وكان ذلك عبر أستاذ آخر هو بشير محمد سعيد علمني في المدرسة الوسطى، وفيما بعد عندما انشأ جريدة الأيام بدأت أساعده في عمله وهو عبارة عن أخبار المحاكم، وعبر بشير تعرفت على عبد الرحيم فهو الذي أخذني برفقته عندما أصبح رئيساً للجريدة وعبره تعرفت على حزب الأمة وخاصة على / عبد الله خليل فالمعبر لي كان عبد الرحيم ثم عبد الله خليل. * وتأثير عبدالله خليل كان أقوى من تأثير الصاوي عليك؟ عبد الله خليل ليس رجلا وإنما هو رجال في رجل، دائماً اذكر قول المتنبئ عن الطرطوسي "عندما سمعت به سمعت بواحد ورأيته فرأيت منه خميساً" (جيش). * ماذا عن حي الهجرة وأم درمان الوسطى ووادي سيدنا الثانوية، جامعة الخرطوم، فمن تبقى في الذاكرة من رفقاء هذه المراحل المختلفة؟ وادي سيدنا كانت مرحلة مهمة من مراحل تكويني لأنها كمدرسة داخلية تتيح للطالب أن يخرج من نطاق التأثيرات الأسرية والحي وينصهر في مجتمع اكبر وأساتذتي هم أكثر من اذكر، رجال مثل جمال محمد أحمد والنصري حمزة كان أبو الداخلية وهو الرمز الحقيقي للمتعلم وأتمنى أن مذكرات النصري التي يعكف على إعدادها ابنه أن ترى النور، واذكر له عندما حولني نميري من وزارة الخارجية للتربية فبعث النصري رسالة يقول "مكانك يجب أن يكون الخارجية ومكان السر هو وزارة التربية"، كان رجلا في منتهى الوضوح والصراحة ومن الزملاء الطلاب الأحياء اذكر عبد الرحمن سوار الذهب كان زميلي في مرحلة الثانوي واذكر صديقا حبيبا لي لكنه يعيش خارج السودان هو د. فاروق فضل طبيب نفسي واذكر أيضا الدكتور أحمد عبد العزيز وهو جاري الآن، وعبد المنعم مصطفى شيخ المعماريين السودانيين، والمحامي عبد الحليم الطاهر هؤلاء هم الأحياء من زمالتنا في الثانوي، وفي الأميرية الوسطي عدد كبير من الطلاب الذين انتقلوا إلى وادي سيدنا كان عدد كبير من طلاب الوسطى اغلب الطلاب الذين اجتازوا الامتحان كانوا في وادي سيدنا، ومن المعلمين الذين كان لهم اثر كبير في حياتي الأستاذ محمد توفيق وقد ظلت علاقتي به وثيقة جداً حتى بعد أن تخرجت من الجامعة. * أين التقيت بالدكتور حسن عبد الله الترابي في هذه المراحل؟ في الجامعة، فهي الأكثر حيوية من كل المراحل الثانية، فهي فترة غليان سياسي وبرزت فيها بصورة اكبر من أي وقت مضى الانتماءات السياسية أو العقدية بين مجموعات الطلاب المختلفة، التقيت به كان زميلي في الدراسة ولكن لم يكن له أي اهتمامات سياسية واضحة لكن بلا شك كان يختزن الكثير... * هل كانت صحبة أم علاقة خاصة أم عامة؟ لا كنا زملاء في نفس الصف فلم تكن صداقة وثيقة ولكننا كنا زملاء في نفس الفصل وتوثقت هذه العلاقة فيما بعد لأننا التقينا في باريس. * ولذلك كنتم تتبادلون الرسائل؟ صحيح * وماذا عن جعفر نميري أين التقيت به؟ التقيت به في حنتوب وفي أم درمان في الاجازات، وكانت لقاءات عابرة عند بعض الأصحاب، ولكن لا أستطيع أن أقول انه كانت توجد صداقة بيننا فلم يتح لنا أن نعيش في نفس الوسط الطلابي الجامعي. * مراحل الشباب فوارة بالحتميات والأشياء فيها ترى بلون واحد هل كنت (ثورنجي) أم طالبا وديعا؟ لم أكن ثورنجيا أبدا وكنت حتى في قضايا الاضرابات عن الطعام أو الدراسة لم أكن أشارك فيها، كانت الأسباب أسبابا تتعلق بالاعتداد بالنفس، فالاضرابات كيف تحدث مثلاً؟ يأتي شخص بعد أن يهجع الطلاب إلى نومهم يدق على الباب ليقول "بكرة مظاهرة أو إضراب" فغالباً ما يكون ذلك من جانب التنظيمات العقدية ويتوقع الشخص الطارق أن يلتزم كل الناس بهذا، فكنت أرى فيها إساءة بالغة فبأي حق تتخذ أي مجموعة الحق في تقرير مصائر الآخرين دون مشاورتهم ثم تفترض بأنهم سوف يلتزمون بهذا القرار ولذلك لم أكن أشارك واذكر من الذين كانوا يسيرون معي في هذا الطريق الدكتور جعفر محمد علي بخيت. * ألم يكن تصرفك حيال هذه الأمور يجعلك موصوفاً وسط جيلك بأنك رجل سلبي غير مساهم في القضايا المصيرية؟ نعم من السهل أن تكال لك كل الاتهامات الممكنة ولكن كان لي رأي، وكانت لي جريدة تتناول كل القضايا، وكنت أطلق عليها اسم (هذيان) وفي الواقع هو هذيان للذي كنت أراه. * روح الشباب المناقضة داخل منصور خالد في ماذا كانت تتمثل بغير الجريدة؟ كان لدي رأي في الندوات ولكن الجريدة كانت المنبر الحقيقي التي اعبر به عن وجهة نظري. * أليس هذا ما يقوي اتهامك بالفردانية؟ ربما...لان هذه المسألة تنعكس في حياتي طوال الفترة حتى في فترة مايو كنت اشعر بعزلة وسط مجموعة كبيرة من الآخرين، لأنني أراهن دائماً على الخط المستقيم باعتبار انه اقصر خط بين نقطتين. * لذلك تتهم أيضاً بالانطوائية؟ لست انطوائيا، ولست غوغائياً. * هل نعتبر الغوغائية قرينة بالانطوائية؟ بمعنى أنه ليس هناك شيء في الوسط؟ لا أرى لان استخدامك للانطوائية بمعنى نزوع الإنسان لنفسه، فأنا لدي رياضات مختلفة وهي بطبيعتها وحدانية أحب أن أقرأ، فأنت لا تستطيع أن تقرأ وسط ناس، وأحب أن أكتب واستمع إلى الموسيقى فكلها أشياء لا تحتمل أن يكون معك آخرون.