الحركات المسلحة... بين التصعيد والتفاوض..! قراءة تحليلية: عمر رملي لاتزال الحكومة تحرص على ملف التفاوض مع الحركات المسلحة باعتباره من ضرورات الموقف السياسي الساعي لخلق تفاهمات شاملة لكل النسيج السوداني ومنفتحة على كل الطوائف حتى تلك الحاملة للسلاح. ويظهر التصعيد العسكري الأخير الذي تشهده مناطق العمليات ضد الجبهة الثورية في جنوب كردفان والنيل الأزرق، كبنيان أساسي على مدرجات التفاوض التي لا تتقوى متانة إلا بتحقيق انتصارات عسكرية مكرسة صوت القوة وممهدة صوت الحوار. وعلى جانب آخر استعداداً مسبقاً لعمليات الصيف مثلما استعدت لها حركات التمرد، غير أن اليوم منطلقات الشتاء وتقاسيمه، تتقاسمها أجواء غائمة، بها من إمكانات نجاح التفاوض مبذولة ومتاحة، وأيضاً مسلوبة محدودة بسبب شواهد سابقة لازلت تلقى بظلالها. بيان مشترك فى بيان مشترك خلال هذا الشهرعقب انتهاء ورشة مشتركة نظمتها بعثة اليوناميد في أديس أبابا، أبدت حركتا العدل والمساواة بقيادة جبريل إبراهيم وتحرير السودان بزعامة مني أركو مناوي التزامهما بالسعي إلى تسوية سلمية متفاوض عليها وصولاً إلى سلام شامل، واستعدادهما للتفاوض على وقف شامل للأعمال العدائية باسم الجبهة الثورية السودانية مع حكومة السودان وخلق تدابير لبناء الثقة تمهد لمحادثات السلام على رأسها إطلاق سراح السجناء والمعتقلين السياسيين وتبادل أسرى الحرب من أجل بناء الثقة وإبداء الرغبة لتسوية تفاوضية، وتزامن هذا البيان بسعى الحكومة لمواصلة التفاوض برئاسة وفد الحكومة للتفاوض برئاسة البروفيسورإبراهيم غندور. عزيمة حقيقية ظل موقف الحكومة واضحاً فى مسارات التفاوض وإحقاق السلام منذ اندلاع الأزمة في العام (2003م) وتبلورت هذه الرؤية في مبادرة أهل السودان بكنانة وزخر الوفد الحكومي المتنوع، وبتشكيلته العديد من الفنيين والعسكريين والقانونيين وعناصر استخباراتية، كان قد حمل معه دلالة واضحة وأكيدة على عزم الحكومة مناقشة كل القضايا المطروحة بكل أبعادها كسباً للوقت ووصولاً إلى سلام بأسرع وأيسر طريق وكان تحرك الحكومة السودانية متجاوباً مع كافة القوى الإقليمية والدولية وجهود الدول العربية والإفريقية الرامية إلى تسوية سلمية للمشكلة ومن منطلق أن خيار السلام هو الخيار السياسي والاستراتيجي الذي يحرك السياسات في السودان، خاصة وأن أزمة إقليم دارفور تم تداولها على مختلف الأصعدة الخارجية المعادية لحصار السودان والضغط عليه، نشداناً لاضطرابه والحيلولة دونه من لعب دور إقليمي يغير من توازنات المنطقتين العربية والإفريقية. دلالات عالية وبخلفية سابقة كانت جولة المفاوضات التي عقدت في الدوحة بالنسبة للموقف الحكومي الرسمي تحمل دلالات على درجة عالية من الأهمية، فهي تتم بمبادرة ورعاية من دولة عربية شقيقة، وتجد تأييداً ومشاركة من الاتحاد الإفريقي والجامعة العربية، كما تحظى باهتمام كبير ودعم من دول العالم الصديقة للسودان، بالإضافة إلى أن الحكومة كانت على اتصال مع القوى السياسية الداخلية أثناء التفاوض بالمشورة والتنسيق، لذلك كانت الحكومة حريصة على التوصل إلى اتفاقيات ناجحة، فقيمة السلام في حده مرتكزاً أساسياً في الاستقرار ومن شأنه أيضاً إحراز مكاسب سلمية معززة لموقف السودان السلمي وعلاقاته الإقليمية والدولية في واقع دولي أصبحت فيه معايير السلم والتوافق الوطني الداخلي من أكبر المؤشرات التي تهتم بها الدول، مع أن صياغة هذا التوافق الوطني في سياسات التعامل الدولي أصبحت لها مساراتها الجانحة نحو التدخلات والاملاءات، كما حرصت الحكومة على مبدأ التفاوض واضعة في حسبانها جديتها لاسيما وأن طرف التفاوض الثاني، الحركات المعارضة تصبح في موقف إلزامي تحت رقابة من أطراف كثيرة في العالم، وكل تسويف وإبطاء من قبلها يفقدها الموضوعية أمام المجتمع الدولي، وبالرغم من كل هذه المعالم التي استهدت بها الحكومة في بسط طاولة التفاوض أمام الحركات المسلحة إلا أنها لقيت رياح أكثر ما توصف أنها لم تكن مؤاتية فى كل مرحلة من مراحل التفاوض. رياح على طاولة التفاوض لم تنجح كل الجولات التي عقدتها الحكومة في إزالة مظاهر الاقتتال من طرف الجماعات المسلحة وذلك بسبب التداخلات الطرفية التي كانت دائماً تعبر سماء التفاوض وتحيل نهاياته إلى وقائع عامرة بالتردي والعودة مجدداً إلى نقطة البداية، ولعل أكبر المعوقات أجسام الحركات الدارفورية نفسها وانقساماتها المتعددة والمتتالية التي تجعل كل جماعة منقسمة وحاملة للسلاح لها الأحقية في الحديث بلسان دارفور وحاملة لواء الشرعية في أن يكون لب التفاوض مرهوناً لديها، وعلى سبيل المثال نجد أن حركة العدل والمساواة ليست الممثل الوحيد لأهل دارفور، فهناك القوة الحية من أهل دارفور ومن داخل معسكرات اللاجئين والنازحين وهم أصحاب القضية بكل تفرعاتها واستحقاقاتها غير أن ظلالهم منحسرة عن المشهد الدارفوري، كما أن الأسلوب الذي تطرح به الحركات المسلحة موضوعاتها المطلبية، وسقوفها يظهرها في مسرح السياسة السودانية كتنظيمات جهوية عرقية افتقدت للقدرة أو الرغبة في التعامل مع القضية داخلياً، ومن ضمن إشكاليات راهن التفاوض اليوم، النطاق الجغرافي لموقع إقليم دارفور في الحزام المحاذي للفرانكفونية، مما جعل منه منطقة شد وجذب بين القوى الغربية خصوصاً فرنسا والولايات المتحدةالأمريكية وفى ظل حالة متنامية من التنافس الإقليمي والدولي بشأن ملف دارفور، حيث تشهد القضية استقطاباً للحركات من فرنسا والولايات المتحدةالأمريكية. وفرنسا على وجه الخصوص ربما تفضل عبد الواحد محمد نور لتوجهاته العلمانية ولعلاقته المتنامية بإسرائيل، وما وهن الدورالإسرائيلي مع عدد من المنظمات الصهيونية فى وضع العديد من العراقيل أمام حل الأزمة في الإقليم ويلحظ من قبل ذيوع تصريحات المحكمة الجنائية الدولية المتزامنة مع إحدى زيارات عبد الواحد محمد نور إلى إسرائيل. تغيرات على الساحة إن استئناف التفاوض والذي يبدو على أساس منطلق مرجعية اتفاقية الدوحة من قبل الحكومة يلقى معارضة من إصرار حركات دارفور التى تنطلق من مسمى الجبهة الثورية التى تجمعها مع الحركة الشعبية لقطاع الشمال، ولاشك فإن التغيرات العنيفة التي يشهدها الجنوب حالياً وتطورات الاوضاع فيه منعكسة على حركات التمرد الذي يجد نفسه للمرة الثانية على التوالي أن منطلقاته بدأت في التراجع بعد حزمة التفاهمات التي أبرمتها الخرطوم مع جوبا ومن قبل الاتفاقيات الأمنية المبرمة مع الجارة تشاد وتغيير النظام الليبي، إذ كل هذه المراحل والتطورات نتفت الكثير من أجنحة الحركات المتمردة وافقدتها القدرة على الطيران عالياً، ثم تأتي العاصفة الآن فتجعل حكومة الجنوب منشغلة بدرء مخاطر أشد تحيل وحدة الجنوب وترابه الوطني وإنسجامه القبلي إلى فتات، ومهما يكن من أمر هذه التغيرات ووتيرتها، فإن وقت التفاوض قد أصبح ضرورة قصوى فى ظل تنامي الأزمات على مختلف الأوضاع في السودان والتي لا تحتمل أوضاعها المضطربة مزيداً من الخروقات الأمنية وانعكاساتها الاقتصادية والاجتماعية الفادحة والممهدة لفوضى داخلية في جوار أصبح نهباً لفوضى إقليمية حادة ومنتشرة، وآخر مظاهرها ما يحدث الآن في الجنوب وما يعكسه سلباً على كل دول الجوار وأقربها السودان، وتبدو هذه الفترة في تنظيف جيوب التمرد ممهداً فعلياً فى الجلوس على طاولة التفاوض ليس من منطلق القوة فحسب، وإنما من منطلق المصلحة العليا التي تجمع فرقاء الوطن بعد دروس مريرة في التفرق والشتات.