كثيراً ما يتساءل المرء: ما هو العامل الحاسم والعنصر الأكثر أهمية في جعل بعض الأقوال أقوالاً حية، وذات قيمة على غيرها؟ أهي بلاغة التعبير أم صدقه أم هو قائلها أو المناسبة أو المحفل الذي قيلت فيه؟ دارت في ذهني هذه التساؤلات وأنا أطالع كتاب "فرنسيس باكون: مجرب العلم والحياة" لمؤلفه الأستاذ عباس محمود العقاد والذي حوى مختارات من أقوال المفكر الفيلسوف ورجل الدولة "باكون" الذي عاش قبل حوالي خمسة قرون. ترى ما الذي جعل العقاد يقدم للقارئ هذه الأقوال بعد حوالي اربعمائة وخمسين عاماً من صدورها؟ وما الذي يجعلني أقتبسها لأقدمها اليوم للقارئ؟ اليس لأنها أقوال ذات قيمة فكرية وأدبية لم تنقضِ بانقضاء مناسبتها ووقتها؟ في استعراضه لأقوال "فرنسيس باكون" قسم العقاد كتابه إلى ثلاثة أقسام: مقالات، ومتفرقات، وطرائف وإجابات. فمن مقالات "باكون" التي أوردها العقاد نقتطف الآتي: رعاة الشعوب أحوج الناس أن يعرفوا علامات العواصف التي تهب على الحكومات.. وللدول علامات قبل هبوب العواصف عليها، كتلك العلامات التي تشاهد في انطلاق الهواء وجيشان الماء قبل هبوب الأعاصير.. ومن تلك العلامات شيوع الحملات والمثالب التي ترمى بها الحكومات، ووفرة (الإشاعات) التي تحوم حول الحكومات وتتلقاها الأسماع بالقبول السريع. وقد قيل في الإشاعة إن الأرض أوغرها الغضب على السماء فأخرجت الإشاعة من جوفها وكانت آخر الذرية... وكأنما الإشاعات بقايا فتن مضت، وهي في الحقيقة طلائع فتن ستأتي من عالم الغيب.. الإشاعات والقلاقل لا تختلف فيما بينها إلا كاختلاف الشقيقة من الشقيق والذكر من الأنثى، ولا سيما حين يصل الأمر إلى الحد الذي يساء فيه الظن بأجمل أعمال الحكومات وأدعاها إلى الرضى والثناء.... ومما لا مراء فيه أن استخدام السياسة في محاولة تغذية الآمال وحمل الناس من مل أمل إلى أمل هو خير ما يتخذ ترياقاً مانعاً لسموم السخط والشكاية، وآية من الآيات على حسن تدبير الحكومة وسداد تصرفها، فتستولى على قلوب الرعايا بالأمل حيث يؤدها أن تستولى عليها بالكفاية، ويعالج الأمور علاجاً لا يأذن لشر من الشرور أن يستفحل حتى لا تنفرج منه ندحة الرجاء والأمل... ومن الحيطة الحسنة والوقاية النافعة ألا يكون ثمة رأس صالح لاتفاق الناس حوله للالتفاف به في أيام السخط والشكاية، ونعني بالرأس الصالح من له عظمة وسمعة، وللساخطين به ثقة وأمل، فيتطلعون إليه وهم يعلمون أنه مثلهم ساخط من أجل شؤونه التي تعنيه. وأمثال هؤلاء الرجال إما تستميلهم الدولة وتسترضيهم جدا وحقاً، وإما أن تقاومهم بنظراء لهم في الجماعة فيقسمونها عليهم. وعلى الجملة لا تعد الحيلة في تفريق الطوائف التي تعادي الحكومة وإقصاء نفوذها وبث الوقيعة بينها محاولة غير محمودة عند الضرورة المويئسة، وهذه الضرورة هي ابتلاء الحكومة بالشقاق في أعمالها وملاقاتها لخصوم متساندين بينهم متفقين عليها.. واذكر أن بعض الأقوال اللاذعة البراقة التي يلفظ بها الأمراء كثيراً ما تلهب نيران الفتن والقلاقل. فقيصر قد أضر بنفسه غاية الضرر بقوله عن سولا (إنه لا يعرف الكتابة ولذلك يملي إرادته)، لأن هذه التورية قد أيأست الناس عن تخليه يوماً من الأيام عن سلطان الاستبداد، وأساء قلبا Galba إلى نفسه حيث قال إنه لا يشتري جنوده ولكنه يكتبهم، فأيأس منه الجنود وأمثالهم. فعلى الملوك في الأيام الحرجة والمسائل الحساسة أن يحاسبوا ألسنتهم على ما تلفظ به، ولا سيما تلك الكلمات القصار التي تنبعث انبعاث السهام وتكشف للناس عن طواياهم، لأن الخطب الفياضة ينسي بعضها بعضا ولا تعلق بالذاكرة. وأخيراً إن على الملوك أن يجعلوا حولهم رجلاً أو رجالاً من أولي الشجاعة العسكرية لقمع الفتن في أوائلها، وبغير ذلك يخشى أن يقع في البلاط عند ابتداء الفتنة مما ينبغي من القلق والإحجام. وتتعرض الحكومة للخطر الذي أشار إليه تاسيتس حيث قال بعد مقتل قلبا Galba بأيدي جنوده: (لقد كان قليلون يجسرون على هذه الفعلة، وكثيرون يتمنونها، وجميعهم يرضون بها ويقرونها).. ومن اللازم لهؤلاء الرجال أولي الشجاعة الذين يحفون بالملوك أن يكونوا على اطمئنان وسمعة حسنة لا أن يكونوا حزبيين، وأن تعمر الصلة بينهم وبين عظماء الدولة الآخرين، وإلا كان الدواء شر من الداء. ومن الطرائف والإجابات نقتطف الآتي: فرض القائد الروماني "مارك أنطونيوس" على آسيا الصغرى (تركيا الحالية) ضريبة مضاعفة في السنة، فجاءه سفراؤها يقولون: إنهم على استعدداد على أداء الضريبة المضاعفة إذا ما سمح لهم ب(خريفين) وحصادين في السنة الواحدة. وقوله: سيق "بيون" الملحد في بعض الموانئ إلى هيكل إله البحار "نبتون" حيث أروه ألواحاً شتى عليها رسوم أصحاب النذور الذين نجوا من العواصف بالتوسل إلى إله البحار "نبتون". ثم تحدوه سائلين: وما قولك الآن؟ ألا تعترف الآن بقدرة الآلهة؟ فأسرع مجيباً: بلى ولكني أسألكم: أين أجد الألواح التي يرسم عليها الغرقى من أصحاب النذور؟ وروي أن "بيون" خرج في سياحة بحرية فلم يلبث أن هاجت بسفينته الأعاصير، وتعالت أصوات النواتية الذين معه بالدعاء إلى الآلهة (وكانوا من شرار الناس) فصاح بهم: صه، لا تدعوا الآلهة تعرف بمكانكم في هذه السفينة.