كان الديبلوماسي الأمريكي الأسبق جوزيف سيسكو يصف الكثير من المبادرات التي انطلقت عقب الحرب العربية الإسرائيلية في العام 1967 لحل مشكلة الشرق الأوسط انها مثل مباراة في كرة السلة يبذل فيها الفريقان جهدهما أن تبقي الكرة في الهواء لشد أنظار المشاهدين لكن دون تحقيق هدف ينهي المباراة. تذكرت تلك المقولة وأنا أطالع العرض الأخير الذي قدمه الأمين العام للحركة الشعبية باقان أموم أن يتخلى السودان عن منطقة أبيي مقابل صفقة ثلاثية تتضمن تقديم النفط بأسعار مخفضة إلى جانب مساعدات مالية غير محددة وغض الطرف عن مطالبات سابقة بمتأخرات في دفعيات للجنوب أبان الفترة الأنتقالية. مرة أخرى ها نحن أمام تكتيك سياسي معروف يقوم على الحركة الدائرية، واثارة بعض الجلبة والضوضاء لكن دون حدوث تحرك فعلي إلى الأمام، وهو ما ينبىء عن حجم المشكلة التي تعاني منها القيادات في البلدين وقعدت بهما حتى الآن عن الخروج من مربع مرارات الماضي والانطلاق من نقطة الأستفتاء لتأسيس علاقة قائمة على المنفعة. لم يكن مستغربا ألا يحظى العرض حتى بمهلة زمنية للنقاش فيه لأنه ببساطة ينطلق مما هو مجرب من قبل ولقي نفس المصير بغض النظر عن نوع العرض أو من يقف وراءه. ففي ديسمبر الماضي وقبل أقل من شهر على الاستفتاء عرض الرئيس عمر البشير على الحركة الشعبية الحصول على كل عائدات النفط مقابل التصويت للوحدة. وقبل ذلك عرض المبعوث الأمريكي سكوت قريشن على السودان أن يتخذ قرارا إداريا منفردا بإلحاق أبيي بالجنوب مقابل بعض الحوافز الأمريكية. ولم يكن مصير العرض الأمريكي بأفضل من سابقه الذي طرحه البشير على الحركة، ونفس المصير لقيه عرض باقان، الذي رد عليه البروفيسور إبراهيم غندور بكلمات تكاد تطابق ما قاله نائب رئيس البرلمان وقتها أتيم قرنق (إنها مسألة مبدأ وليست قضية للمساومة). النقطة الجوهرية في كل هذا أن العروض التي تنطلق من حلول مقترحة من خارج المناطق المتأثرة ومن وراء السكان أصحاب المصلحة لا تجد لها حظا من البقاء. يصدق هذا على الحل الذي اقترحته لجنة الخبراء الخاصة بأبيي، الذي لم يجد طريقه إلى التنفيذ وشكل أول العقبات أمام تنفيذ اتفاقية السلام، وهو نفس المصير الذي لحق بالفكرة غير المسبوقة بالتحكيم الدولي في قضية داخلية، بل واتفق الطرفان على تأجيل الاستفتاء على تبعية منطقة أبيي الذي كان يفترض أن يقوم متزامنا مع استفتاء الجنوب. لكن هذا الاعتراف والإقرار بالواقع لم يتقدم خطوة إلى الأمام والعمل على إحداث الاختراق المنشود وفتح آفاق جديدة، وذلك لأن كلا من المؤتمر الوطني والحركة الشعبية ذهبا بعيدا في استغلالهما لكل من المسيرية ودينكا نقوك في اجندتهما السياسية العامة للدرجة التي لم يعد يستطيعان فيها فرض ارادتهما وإخضاع الواقع المحلي للحلول الوطنية العامة. ويظهر ضخامة حجم هذا الشلل في الفشل في التواؤم مع الحقيقة التي أفرزها الاستفتاء وهي قيام دولة جديدة أمامها الكثير من مهام وتحديات بناء الدولة من الصفر مما كانت تحتاج معه إلى أعمال المبدأ الذهبي في التعامل مع الدول المجاورة وهو عدم التدخل في شؤون الغير والتفرغ للبناء الداخلي. وعلى غير الدول التي نالت استقلالها فإن قيادة الحركة الشعبية لم تحظ بفترة شهر العسل المعهودة في الاوقات التي تعقب الاستقلال، لأنها ظلت تحكم الجنوب طوال ست سنوات وأصبح كتاب أدائها مفتوحا أمام جمهورها. ثم أن الاستقلال لم يصحبه انسحاب لجيش الشمال من الجنوب وتخلي الشماليون عن وظائف قيادية كانوا يشغلونها وأصبحت متاحة أمام الجنوبيين بعد الانفصال. وعليه وفي الواقع العملي البحت فأن الاستقلال لم يأت بجديد لم يكن متاحا من قبل إلى حكومة الجنوب التي كانت لها حتى مكاتبها في الخارج التي تقوم بعمل السفارات، سوى رفع للعلم وفيض من المشاعر القومية. وبنفس القدر فإن أداء المؤتمر الوطني ليس أفضل حالا بدليل أنه فوجىء بحجم المشكلة الأقتصادية رغم أن احتمال الانفصال كان واردا منذ توقيع اتفاق مشاكوس الإطاري في يوليو من العام 2002، وأن البرنامج الثلاثي المطروح الآن كان ينبغي أن يكون قد اكتمل وأعقبه برنامج ثلاثي آخر. وفي مثل هذا الوضع ومع وجود ضعف بائن في القيادات وعلى مستوى المؤسسات ففي الغالب يتم اللجوء إلى الوصفة المجربة وهي البحث عن متاعب خارجية لتحميلها مسؤولية الأزمات الداخلية بدلا من مواجهة الواقع والعمل على توفير الحلول الناجعة مهما كانت مؤلمة. وهذا الوضع يضع البلدين أمام خيارين.. الانطلاق من ملف النفط لبناء علاقة تقوم على المصحلة المتبادلة وتطويرها في مختلف المجالات تحت أفق إيجابي استنادا إلى حقائق الجيولوجيا والجغرافيا وواقع الحال الذي جعل النفط من جنوب السودان يتدفق عبر البنية التحتية للعمليات النهائية للصناعة النفطية السودانية من مراكز المعالجة والنقل عبر خطوط الأنابيب والتخزين في المستودعات والشحن للناقلات لقرابة أربعة أشهر وبدون اتفاق على المبالغ التي يفترض في جنوب السودان أن يدفعها مقابل هذه الخدمات. وهذا ما يؤكد على طبيعة التشابك بين البلدين وعدم قدرتهما على الاستغناء عن تدفق النفط ولو ليوم واحد. فتهديدات المسؤولين بوقف تصدر نفط الجنوب ما لم يتم دفع رسم الانتقال الذي تفرضه الخرطوم لم توضع موضع التنفيذ، تماما كما أن الحديث الذي تلوكه قيادات الحركة الشعبية عن التحول إلى كينيا وإيجاد منفذ آخر لنفط الجنوب يتضح يوما بعد يوم أنه أقرب إلى أضغاث الأحلام ولم تتم أي خطوات عملية لوضعه موضع التطبيق خاصة في ضوء عدم وجود اكتشافات نفطية جديدة إلى جانب المهددات الأمنية والنزاعات القبلية، التي تثير الكثير من الأسئلة عن الجدوى الاقتصادية لمشروع خط الأنابيب. أما الخيار الثاني فهو الاستمرار في حالة الأزمات المتتالية التي تظلل علاقات البلدين حاليا وعنوانها الرئيس (الأمن الداخلي في كل منهما)، حيث تتصاعد قدرات اللاعبين المحليين في التأثير على السياسات العامة للدولتين وتنذر بانزلاقهما في مستنقع الحروب الأهلية وتفكك البنيان السياسي والاقتصادي والمجتمعي للدولتين، ولن يكون المجتمع الدولي بأحرص على البلدين من أبنائهما. // ع