اذا كانت هناك كلمة واحدة يمكن اطلاقها لوصف ما يمكن أن يشهده العالم هذا العام فهي كلمة (فوضى). فوضى بسبب إهتراء وتمزق الإطر السياسية والاقتصادية والاجتماعية القديمة، وعدم بروز إطر أخرى جديدة تحل محلها وفوق هذا الغياب المزري لأي قدرات قيادية سواء على المستوى الفردي أو المؤسسي، وهو ما عبر عنه كاتب الواشنطون بوست ديفيد أغناطيوس مؤخرا في مقال له عنونه "القيادة المرتبكة" في اشارة الى تواضع وإضطراب الأداء القيادي لباراك أوباما، في الوقت الذي يتطلع فيه العالم الى الولاياتالمتحدة، وأيضا الى الضعف البائن في أوروبا التي تواجه معضلات إقتصادية تجعلها أقل قدرة على الفعل. وبسبب هذا الضعف القيادي فأنه من الصعب العودة الى التعبير الذي ساد لفترة من الزمن إبان حقبة جورج بوش عن الفوضى الخلاقة، لأن تلك الفوضى الخلاقة تعني ضمنا وجود قيادة قادرة على تجيير الأحداث لصالحها ان لم تصنعها أبتداءً لأن لديها الرؤية والقدرة على إنجاز أهدافها. العام الذي مضى متلفحا الثورات العربية أشار الى حقيقة أساسية تتمثل في غياب القياة ذات الرؤية والقدرة على توجيه الأحداث. فرغم الانتقادات الغربية المعروفة عما كان يجري في المنطقة، الا ان ما جرى في تونس وبعدها في مصر أكد على بعد أكبر قوتين وهما الولاياتالمتحدة وفرنسا عن معرفة ما يجري ناهيك عن التأثير فيه، وهو ما عبرت عنه بوضوح التصريحات المرتبكة في البداية ومحاولة اللحاق بما يجري على أرض الواقع بصورة ما. وهذا الضعف ربما يفتح المجال أمام تشكيل نظام عربي جديد يضمحل فيه العامل الأجنبي بصورة واضحة، و لا ينتهي كلية، وذلك لأول مرة منذ أكثر من نصف قرن من الزمان. فحقبة الانقلابات العسكرية التي شهدتها المنطقة منذ أواخر أربعينات القرن الماضي أبتداءً بسوريا لعب فيها التأثير الخارجي دورا لا يقل ويتضخم من حالة الى أخرى. وبما ان العامل الخارجي يعمل كما هو معروف من وحي مصالحه، فإن منظومة الأنظمة التي سادت في المنطقة انتهت الى ما هو متوقع: تركيز أكبر على تأمين مصالحها الخاصة وارتباطها بالمصالح الغربية على حساب إحتياجات شعوبها في الخبز والكرامة، الأمر الذي أدى شيئا فشيئا الى بروز التناقض بين شعارات الديمقراطية وحقوق الانسان المرفوعة في الغرب والأنظمة المحسوبة صديقة للدول الغربية، وهذا ما جعل الأخيرة غائبة عن التيارات الشعبية المناوئة التي تموج تحت السطح وإمتد غضبها ضد الأنظمة القائمة الى مسانديها في العواصمالغربية. الفعل الثوري الذي تشهده المنطقة وأنطلقت شرارته بصورة عفوية مستفيدة من تراكمات سابقة أعاد التركيز على كتاب قديم يعتبر دراسة كلاسيكية للثورات وكيفية انطلاقها وما يمكن أن تنتهي اليه. والأشارة الى كتاب "تشريح الثورة" للمؤلف الأمريكي كرين برنتون الصادر في العام 1938 لأول مرة، وتناول فيه بصورة معمقة دراسة أربع ثورات والخلوص بنتائج منها وهي الأنجليزية والأمريكية والفرنسية والروسية. وتوصل الى ان هناك دورة كاملة تمر بها هذه الثورات تبدأ بتراكم عوامل الغضب على النظام القائم وأنقطاع الصلة بينه وبين الناس الذين يحكمهم، ثم تبدأ آلية التغيير عملها عندما تنطلق شرارة الثورة لأسباب إقتصادية في الغالب وتعجز السلطة عن حفظ الأمن والنظام أما لتغلب الثوار عليها ولو عدديا أو لإنحياز قوات نظامية مقدرة الى جانب الثوار بما يمكنهم من البروز قوة لها اليد العليا ومن ثم يتم الانقلاب على النظام القديم القائم وفتح الطريق أمام نظام جديد. وهذه الفترة تتميز بوجود قدر من الوحدة بين الثوار وشهر عسل قصير يتبعه تمايز للصفوف لأنه في العادة يوجد عدد أكبر من الذين يتفقون على ما لا يريدون، لكن الاختلاف يبرز مع البديل، وهي الخلافات التي يمكن أن تبلغ ذروتها بالتعبير السائد عن الثورة التي تأكل أبناءها. ومن ثم ينفتح الباب أمام مرحلة من العنف في أجواء من الأرهاب شهدتها الثورات الأربع المشار اليها ربما كان أبرزها ما حاق بالثورة الفرنسية على عهد روبسبير وفترة ستالين الأولى. وهذه المرحلة تفتح الطريق أمام ديكتاتورية جديدة تؤمن شيئا من الاستقرار السياسي والبناء الاقتصادي وتزيح الوجوه القديمة سواء تلك التي إرتبطت بالنظام القديم الذي ثار الناس ضده في البداية أوتلك التي برزت إبان فترة الفوضى والعنف. وتخلص دراسة برنتون الى ان انجازات هذه الثورات فيما يتعلق بالبنية الهيكلية لمجتمعاتها تبدو متواضعة في التحليل النهائي مقارنة بما أنجزته ثورات من نوع آخر كما في حالة أتاتورك التركية أو الثورة الصناعية. كتاب برنتون هذا ونظريته ليست القول الفصل فيما يتعلق بالثورات لأنه كتب في ثلاثينيات القرن الماضي. ومنذ ذلك الوقت حدثت تطورات ضخمة مما يجعل من الممكن والمطلوب اضافة صفحات وفصول جديدة لنظريته تلك. ويمكن الاشارة الى ان عامل نقطة التحول في مسار أية ثورة، أي النقطة التي تتحول فيها الأحداث الى صالح الثوار في مواجهة النظام القائم. ونظرة سريعة الى الثورات التي إجتاحت العالم العربي العام الماضي تعطي مكانة متميزة للثورة الليبية حيث لعب العامل الخارجي من خلال حلف الناتو دورا في تحقيق نقطة التحول لصالح الثوار. وهو ما يبدو واضحا في ان إستنكاف الدول الغربية عن دعم الانتفاضة العراقية عقب إخراج صدام حسين من الكويت في العام 1992 مما أدى الى نجاح ذلك النظام في اعادة سيطرته على الأوضاع والبقاء في السلطة لعقد آخر من الزمان. هذا الخلط بين العوامل القديمة والجديدة يعود الى مرحلة التحول الكبيرة التي يشهدها العالم بسبب ثورة الاتصالات ومن ملامحها النفوذ القوي لشبكة التواصل الاجتماعي الذي أنتج ثورات شعبية بدون وجوه قيادية، مما أدى الى بروز القوى الأكثر وحدة وتنظيما من الأسلامويين نتاجا للعملية الانتخابية. لكن لمعرفة هذه القوى بحجم التحديات التي تواجهها وضآلة الحلول المتاحة لديها فإنها آثرت أشراك الآخرين معها لتحمل العبء معها كما ظهر في تونس ومصر وفي السودان حيث بقي المؤتمر الوطني خمسة أشهر يمد حبال الصبر حتى يصطحب معه 14 حزبا آخر، لكن السؤال يظل قائما: ثم ماذا بعد؟. السر سيد أحمد