د عبدالعظيم ميرغني أشجار وثمار وأحجار سئل رئيس إحدى الشركات العالمية الكبرى عما إذا كان ذا حساسية تجاه الانتقاد، فأجاب بقوله: نعم، كنت أتوق في بادئ أمري بالإدارة أن أجعل جميع العاملين معي يعتقدون أنني رجل كامل، فإن لم يفعلوا أصابني هم وقلق شديدان. وقد كنت أحاول استرضاء كل من يبدي أيَّة ملاحظة ضدِّي، ولكن حالما أفعل ذلك، كنت أجد نفسي قد أثرت غضب شخص آخر، وما أن أُسوِّي الأمور مع هذا الشخص، حتى أثير غضب وانتقاد أناس آخرين. وأخيرًا اكتشفت أنني كلما حاولت معالجة جرح صغير، أصاب بجراح أكبر وأكثر، فقلت في دخيلة نفسي: إذا رفعت رأسك فوق الجمهور، فإنك سُتنتقد بالتأكيد، فاعتد على هذه الفكرة. وقد ساعدني ذلك كثيرًا منذ ذلك الحين، فاتخذت قاعدة، وهي أن أبذل جهدي، ثم أمسك بمظلتي القديمة، وأترك الانتقاد ينصب عليها بدلًا من أن تنصب على رأسي). إذاً ليس هناك من مهرب أو مفر لأي شخص من النقد. ورحم الله سفيان بن عيينة القائل: اذا رأيتم الناس قد أجمعوا على مدح رجل فاتهموه، واذا رأيتم الناس أجمعوا على قدح رجل فاتهموه، فالمؤمن بين قادح ومادح. والنقد أنواع، فمنه ما هو موضوعي وبناء، وهذا النوع من النقد يهتم ببيان العيوب دون مبالغة وإبراز المزايا دون تضخيم، وينطلق صاحبه من الإخلاص للفكرة بغض النظر عن مبتدرها أو مبتكرها. والنقد البناء يخلو من التجريح الشخصي ويصوب الجهد نحو استكمال العمل على الوجه الأفضل، وفي الاتجاه الصحيح الذي يحقق الصالح العام، وهو يجبرنا على احترام صاحبه والإصغاء إلى أفكاره والاستئناس بانتقاداته. وهناك من النقد ما يوصف بالنقد "الأحول" وهو انتقاد من نحب بعين الرضا التي هي عن كل عيب كليلة، فهو يركز على المزايا فيكبرها ويضخمها ويتغاضى عن مواطن الضعف والقصور. وقيل إن هذا النوع من النقد مؤسسه هو الثعلب الذي حين سئل أن يضع الطوق في أجمل مخلوق علقه في عنق جروه. وهناك من النقد ما يوصف بالاعور وهو نقد ظالم ومغرض وهدَّام كنقد الناقد بعين السخط لمن لا يحب فيبدي المساويا ويضخم العيوب ويستغل النقص في العمل من أجل النيل من صاحبه وتجريحه والتشهير والتشفي منه ورميه بما ليس فيه، وهذا النوع من النقد يطلق عليه أحياناً مسمى المدح الخفي، لأن الشهادة فيه غالباً ما تأتي من ناقد ناقص، فإذا أتتك مذمة من ناقص فهي الشهادة لك بأنك كامل على قول المتنبئ. كما قد يأتي هذا النقد الأخير بفعل من لا نجد حرجاً في أن نساوي بين فعله وفعل الحشرات التي تلدغ ليس عن أذية، ولكن لأنها هي الأخرى تريد أن تعيش فهي تريد دمنا لا آلامنا، ومثل هذا الناقد أيضاً يريد أن يعيش ويسترزق لا الإيذاء فقد لا تكون بينه وبين المنتقد عداوة أو حتى سابق معرفة. إن الذي لا يخطئ هو الذي لا يعمل، فمن الطبيعي أن يتعرض المرء العامل للخطأ ومن ثم للإنتقاد. وإن الذين لا يعملون يؤذي نفوسهم أن يعمل الآخرون ولذلك يكبدون غيرهم أثماناً باهظة لا علاقة لها بالعمل، كمحاولات إغتيال الشخصية؛ فمثل هؤلاء لا يكتفون في المعارك باستخدام الأسلحة المشروعة –الحرب علناً وبوسائل علنية- وهي فتاكة بطبيعتها، بل يلجأون إلى أساليب غير مشروعة كالدس الكاذب والتآمر الرخيص. فلا يضيقن أحد بمكر الأعداء وكيد الكائدين، فإنه بقدر البلاء يكون الاصطفاء، وإنه على قدر أهل العزم تأتي العزائم. و(الما بكتلك بقويك)، و(لولا اشتعال النار فيما جاورت ... ما كان يعرف طيب عرف العود). ومن أراد أن لا يتعرض للانتقاد فليبق في الظل بعيداً عن الأضواء. أو يحاكي تلك الشجرة الحمقاء، فيبقى بلا زهر ولا ثمر، فالأشجار المثمرة وحدها هي من بين كل الأشجار ترمى بالحجارة. لا يظنن ظان بأنه بمنجاة من الحساب، إن أحسن فإحسان وإن أساء فعذاب. ولا يأمنن مسيء من ردة فعل من أساء إليهم، فالناس في استجاباتهم وردود أفعالهم يتفاوتون، فهناك الفوريون وهناك المتمهلون المتريثون، وهناك من ينتهج نهج "الكلب ينبح والجمل ماشي"، ولكن هذا الجمل الحليم الذي يمشي في إيقاع نبيح الكلب قد يتحول إلى جمل حاقد في غمضة عين فهو يراكم المشاكل والأحقاد السنين تلو السنين قبل أن ينفجر غاضبًا فيحدث ما لاتحمد عقباه. فاتقوا غضبة الحليم، فهل رأيتم "أحقد من جمل" كما تقول العرب. تلك قراءاتي لهذا الأسبوع استقيتها من عدة مصادر ومراجع لا يشغلن القارئ نفسه بتفاصيلها في هذا المقام.